هل مات نابليون مسلما ؟؟
في كتابه نابليون والإسلام (Bonaparte et Islam) تبنى الكاتب الفرنسي الشهير كريستيان شيرفين الرأي القائل بأن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت مات مسلما، ونقل من عدة وثائق ومن مذكرات نابليون في منفاه الذي توفي فيه قوله “أنا مسلم موحد أؤمن بالله وأؤمن بالرسول محمد وأتمنى أن لا يتأخر الوقت لكي أتمكن من توحيد الحكماء العارفين في فرنسا وأقيم نظاماً متسقاً على أساس مبادئ القرآن حيث أنه الوحيد القادر على إسعاد البشر”.
إن أكثر المؤرخين يرون أن إسلام نابليون الذي أعلنه في مصر إبان الحملة الفرنسية (1798 – 1801) إنما كان مناورة سياسية ليستميل بها قلوب المصريين لما علمه من شدة تعلقهم بدينهم. ويستدل هؤلاء بالمذابح التي ارتكبها نابليون في القاهرة وما فعله في الأزهر الشريف. وفي هذا السياق يقول المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية واصفا ما فعلته الحملة في الأزهر “….
بعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند إبليس وهدموا ما وجدوه من المتاريس ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا الى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا ارسالًا ركبانًا ورجالًا ثم دخلوا الى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول.
وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه وأصبح يوم الثلاثاء فاصطف منهم خرب بباب الجامع فكل من حضر للصلاة يراهم فيكر راجعًا ويسارع وتفرقت طوائفهم بتلك النواحي أفواجًا واتخذوا السعي والطواف بها منهاجًا وأحاطوا بها إحاطة السوار ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش على النهب وآلة السلاح والضرب وخرجت سكان تلك الجهة يهرعوا وللنجاة بأنفسهم طالبون وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ويرغب الناس في سكناها ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع والفرنساوية لا يمرون بها إلا نادرًا ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع وانخفض على غير القياس المرفوع ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفًا مئينًا وألوفًا فإن مر بهم أحد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه….” اهـ
هذه الشراسة والقتل والنهب الذي أحدثه الفرنسيون في القاهرة وفي الأزهر الشريف لا يوحي بأن قائدهم كان متعاطفا مع المسلمين فضلا على أن يكون مسلما ، إلا أن الأمر ربما يكون أعقد من ذلك.
يمكن تفنيد هذه النظرية من عدة وجوه:
الأول: أن شخصية نابليون لا تتفق مع هذا التفسير على الإطلاق ، فإنه قبل الحملة على مصر كان قد شن حملة عاتية على الفاتيكان واعتقل البابا وكل القساوسة الكبار وعاث فسادا في الكنائس والأديرة ، وأجبرهم على التخلي عن سلطاتهم وأن يقبعوا في أماكنهم بحيث لا تكون لهم أدنى علاقة بالدولة أو السياسة. وكانت أحلام نابليون في امبراطورية أوروبية أدعى لأن يهادن الكنيسة ويتملقها.
إن الكنيسة الكاثوليكية في روما لم تعتبر نابليون مسيحياً ، فالرجل لم يذهب يوما للصلاة في كنيسة، ولم يحضر تسبيحه شكر وفقاً للطقس المسيحي، ولم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة التثليث في المسيحية، وتزوّج ماري لويز النمساوية في الوقت الذي لم يكن البابا قد أقرّ طلاقة من جورفين ، ولم يؤمن يوماً بعصمة البابا (وهو مُعتقد في صلب العقيدة الكاثوليكية) بل لقد أهانه وسَجَنه وجرّده من ممتلكاته.
إن المناورة السياسية كانت لها دوافع قوية في حروبه بأوروبا ومع ذلك لم يهادن الكنيسة. فكيف نتصور أنه يفعل ذلك في مصر وكانت دولة في غاية الضعف والتخلف في ذلك الحين ؟ وكان المماليك الذين يحكمونها شبه معزولين عن العالم الخارجي ، وقد ذاقوا هزيمة نكراء لم تقم لهم بعدها قائمة.
الثاني: أن نابليون الذي لم يمكث في مصر إلا سنة واحدة تقريبا تخللتها عدة شهور قضاها في حملته على الشام ، أي أنه مكث في مصر شهورا قليلة ، ومن الثابت أنه أثناء هذه المدة المحدودة حضر دروسا كثيرة في الجامع الأزهر في تفسير القرآن وفي الفقه ، وكانت بعض هذه الدروس تمتد لساعات وكانت له فيها مداخلات وأسئلة ونقاش. إن هذه الأحوال لقائد عسكري بحجم نابليون لا يمكن أن يكون دافعها المناورة السياسية فقط.
الثالث: إن عددا كبيرا من الوثائق تثبت إعجاب نابليون الشديد بالإسلام بعد عودته من مصر ، وعلى امتداد عشرين سنة وهذا لا يمكن إلا أن يكون بقناعته الكاملة. بل إن بعض الرسائل التي كتبها أثناء وجوده في مصر لجوزفين يعبر فيها عن تأثره الشديد بالـ “المنهج” الإسلامي.
الرابع: إن تصرفات الجيش الفرنسي في القاهرة كان جانب كبير منها ردا على هجمات مستمرة للمماليك.
الخامس: إن السلطات الكنسيّة في روما لم تكن مُقتنعة أن اعتناق نابليون للإسلام في مصر كان مجرّد خدعة فوصفته بالمرتد عن المسيحية إلى الإسلام•
من هذا يقوى رأي القائلين بإسلام نابليون عن قناعة ورضا. لكن ينغص على هذا الاستنتاج اعتراضان كبيران:
الأول: أن سلوك نابليون عموما في حملته على مصر لا يتسق مع إسلامه، خاصة الوحشية والبربرية التي تعامل بها أثناء اجتياحه لفلسطين. يقول المؤرخون الغربيون إنه ارتكب مجازر في العريش وغزة ويافا وحيفا، وأنه بعد احتلاله يافا أمر بقتل ألفين من الجنود العثمانيين بعد استسلامهم واختار أن يقتلهم طعنا بالحراب لتوفير الذخيرة ، ثم سمح لجنوده أن يعيثوا فسادا في يافا لثلاثة أيام حيث نهبوا كل ما فيها وقتلوا الرجال والنساء والأطفال ، ثم أمر بقتل ثلاثة آلاف من السجناء. وعندما قرر العودة لمصر ، أراد أن يصلها بأسرع ما يمكن فأمر بالتخلص من جميع الأسرى والمرضى فأعدمهم جميعا.
بل إن نابليون لدى عودته إلى مصر عبر رحلة شاقة بامتداد الساحل الشرقي للبحر الأبيض ، طلب من أطباء الحملة تدبير جرعات مميتة من الأفيون للقضاء على جنوده المصابين بأمراض شديدة، لكن الأطباء رفضوا فسحب نابليون اقتراحه. إن هذه الوحشية التي تمثل صفحات سوداء في تاريخ نابليون لا يمكن أن تتفق مع ما يحاول البعض اثباته من إسلامه عن قناعة ورضا. والغريب أن أشد المعجبين بنابليون لم يستطيعوا أن يدافعوا عن هذه الجرائم ، بينما نجد في بلادنا من العلمانيين الذين يسبحون بحمد الحملة الفرنسية التنويرية لا يخجلون من كتمانهم لهذه الحقائق المروعة، والتي مصادرها التأريخ الغربي.
الثاني: إن سيرة نابليون في منفاه الذي توفي فيه ، والتي تم تسجيل تفاصيلها الدقيقة على امتداد أكثر من ست سنوات ، لا توحي على الإطلاق بإسلامه وإن عبر دائما عن “إعجابه” بالإسلام.
إن الذي يظهر لنا من دراسة هذه الآثار المختلفة ، أن نابليون غمره الإعجاب بالإسلام كمنهج وثقافة ، ولكن إعجابه العقلي بالإسلام لم يرق إلى اعتناقه والتسليم لأحكامه. إن نابليون لم يفهم أن من يعتنق الإسلام عليه أن يلتزم بأحكام هذا الدين وأن يخضع لها ويرضى بها ويقيمها في حياته. بل على العكس فإنه أخذ يقتطع بعض معان إسلامية ليجعلها تناسب أهواءه وأفكاره.
وهنا بعض النقول من مذكراته التي تؤكد ما ظهر لنا:
• قال نابليون لمدام دى ريموسا de Rémusat بعد عودته من مصر بسنوات:
• “لقد كانت الفترة التي قضيتها في مصر هي أكثر الفترات بهجة في حياتي ••• لقد وجدت نفسي في مصر متحررا من قيود الحضارة وإزعاجها• لقد رحت أحلم بأمور كثيرة ورأيت كيف أن كل ما حلمت به يمكن أن يتحقق •
• لقد ابتدعت دينا وتصورت نفسي في الطريق إلى آسيا راكبا فيلا وعلى رأسي عمامة وفي يدى قرآن جديد كان علي أن أصيغه على وفق أفكاري•••• وكان عليّ أن أهاجم القوات الإنجليزية في الهند وتجديد علاقاتي بأوربا القديمة بفتحها••• لكن القدر كان ضد أحلامي”
• ويقول بحسب فهمه المغلوط لوضع المرأة في الإسلام “… إننا يجب أن نتحصن ضد فتنة النساء بأخذنا بالنظرة الإسلامية للمرأة. إننا نعامل النساء معاملة جيدة جداً، وبهذه الطريقة نفقد كل شيء• إننا نخطئ خطأً كبيراً في رفعهن إلى مستوانا• حقاً إن شعوب الشرق أكثر منا عقلاً وإحساساً بإعلانهم أن الزوجة ملكية حقيقية لزوجها• فالحقيقة أن الطبيعة قد جعلت المرأة جارية للرجل• فالمرأة تضع الأطفال للرجل•• وعلى هذا فهي من ممتلكاته تماماً كما أن فاكهة الشجر ملك لصاحب البستان ………. لقد كُنت دائماً أعتقد أن المرأة خُلِقت للرجل، والرجل للوطن والأسرة والمجد والشرف…”
• وبعد معركة فريدلاند Friedland في عام 1807 التي شهدت مذبحة مروّة على الجانبين وضع نابليون برنامجاً دراسياً لمدرسة تُبنى في إكوين Ecouen للبنات اللائي فقدن أمهاتهن واللائي ليس لهن أهل قادرون على إعالتهن• ويقول نابليون عن خطته الدراسية ” …. ماذا يجب أن تتعلّم البنات في إكوين Ecouen؟ يجب أن نبدأ بتعليمهن الدين بكل صرامته•• فما نطلبه من تعليم البنات هو أن يجعلهن مؤمنات لا مفكّرات، فضعف عقول النساء وكونهن غير مستقرات في أفكارهن ••• يجعلهن في حاجة إلى الاذعان الدائم•• ولا يمكن الوصول لكل هذا إلا من خلال الدين••
إنني لا أريد لهذه المدرسة أن تُخَرّجَ نساء ذوات فتنة وإنما نساء ذوات فضيلة ولابد أن يكن جذّابات بحكم مبادئهن السامية وقلوبهن الدافئة لا بحكم ظُرفهن وكونهن مُسلِّيات•• وبالإضافة لهذا لابد أن نعلِّم البنات الكتابة والحساب ومبادئ اللغة الفرنسيّة••• ولا ضرورة لتدريس اللاتينية لهن•• ولابد من تعليمهن إجادة كل أعمال المرأة•• ولا مجال لأن يقوم الرجال بالتدريس للبنات، فلا يجب أن يكون في المدرسة رجل إلاّ المدير•• حتى أمور حديقة المدرسة يجب أن يقوم عليها النساء …”.
• إن فلسفة نابليون السياسية كان واضحا في جوانب منها هذا التشويش الذي نتج من قناعة عقلية دينية وبين مجد شخصي كان يصبو إليه بأي ثمن ، مما جعله يناقض أفكار الثورة الفرنسية التي كان يظهر للكافة قناعته وولاءه لها. يقول نابليون ” …. ما دام كل الناس قد وُلدوا غير متساوين فلا مناص من أن الأقلية وهي التي تمتلك العقول الأقوى هي التي ستحكم الأغلبية بقوة السلاح والفكر ، ومن ثمَّ فإن يوتوبيا المساواة ما هي إلاّ خرافة مسلّية يقول بها الضعفاء، فالصيحات الفوضوية المطالبة بالتحرر من القوانين والحكومات، إنما هي تضليل فج يدل على عدم النضوج كما يدل على عقول مستبدّة• والديمقراطية لعبة يستخدمها الأقوياء ليُخفوا بها حُكمهم الأوليجاركي (الأوليجاركية تعني حكم الأقلية التي تعمل لصالحها في ظل نظام ظاهره جمهوري).
• وهو يعبر كثيرا عن هذه الآراء السياسية المتناقضة بحماس وقوة فيقول ” ……. إن الثورات تُطلق العنان لمشاعر الجماهير المتقدة مادامت الجرائم الجماعية لا تُوقع المسؤولية الجنائية على أحد، ولا يمكن أن تكون هناك ثورة بدون إرهاب ، و الثورات هي السبب الحقيقي لبعث الأعراف العامة وبث الروح فيها من جديد…” ، ثم في آواخر حياته يعود فيقول “…إن الثورة واحدة من أكثر الشرور التي يمكن أن يُبتلى بها البشر•
إنها كارثة حلّت بجيل ومهما كانت المزايا الناتجة عنها، فإنها لا يمكن أن تكون تعويضاً عن البؤس الذي نغَّصت به حياة الذين قاموا بدور فيها….. إن فرص تأمين الحكم الصالح في النظام الوراثي (الملكي) أكثر منها في النظام الانتخابي فالناس يكونون أكثر سعادة في ظل مثل هذه الحكومة الراسخة الدائمة منهم في ظل ديمقراطية تجعل كل الأمور متاحة للجميع بلا ضابط فيستولى الشيطان في خاتمة المطاف على مقدّراتها ففي الأزمنة التي يسودها الهدوء والنظام ينعم كل فرد بنصيبه من السعادة فيصبح عامل الاسطبل سعيدا في اسطبله سعادة لا تقل عن سعادة الملك على عرشه، ويسعد الجندي العادي سعادة لا تقل عن سعادة الجنرال…”.
• وأخيرا .. فإن ما نُقل عنه في أواخر حياته بشأن معتقداته الدينية يؤكد أيضا هذا الارتباك الذي كان يعيش به. وقد عبر كثيرا عن عدم إيمانه بالخلود ، ويقول ” … ليس هناك خلود وإنما الذكرى التي يتركها المرء في عقول الناس ونفوسهم••• أن تعيش بلا مجد، ودون أن تترك أثراً لوجودك، فكأنك لم تَعِش على الإطلاق…”.
ويقول بعبارات صريحة لصديقه جورجو ليشرح له إيمانه بالمادية البسيطة ” …. قل ما تشاء! إن كل شيء مادي غير أن التنظيم فيها مختلف، فهناك ما هو أكثر اتساقا، وهناك ما هو أقل• عندما أخرج للصيد آمر بفتح أحشاء الغزال فأرى أن ما بداخله هو نفسه الذي بداخلي• وعندما أرى أن للخنزير معدة مثلي، وحصيلة هضم مثلي، أقول لنفسي (إن كان لي روح فإن له أيضا روحاً)• عندما نموت يا عزيزي جورجو نصبح جميعا موتى……”•
قبل موته بستة أسابيع قال لبيرتران “… إنني سعيد جدا أنني بغير دين• إنني أجد في هذا ترضية وسلوى كبرى، فأنا لا أضع في اعتباري إرهابا متخّيلا (يقصد: عذابا مُنتَظراً) ولا خوفاً من المستقبل. كيف نوائم بين ازدهار الشرّير وعذاب القدّيس مع وجود إله عادل؟ انظر إلى تاليران• إنّه متأكد أنّه سيموت في فراشه..”اهـ
د. محمد هشام راغب
http://el-wasat.com/heshamblog/?p=677
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رمز الوفاء
المفضلات