ابواب
في النفس والمجتمع : طفلها يُشغلُها ...
إبراهيم كشت
«أُمُّ إياس» سيدةٌ مشحونةٌ بالايجابية، مفعمة بالأمل وحبِّ العمل، وحين استقالت من عملها في الجامعة الأردنية بعد سنوات طويلة من الخدمة، لم تستطع أن تجاري نمط حياة سيدات المجتمع الاستهلاكي في التكيّف مع الفراغ، بما في ذلك النمط الشائع من زيف وتكلف وسُخف، فآثرت أن تكمل دراستها وتلتحق ببرنامج الدكتوراة في مجال تخصصها في الصحة العامة . وقررت أن تبحث وتكتب، وقد حققت جزءاً من طموحاتها حين أخرجت للوجود كتابها (طفلي يشغلني)، ووضعت فيه عُصارة خبراتها، وخلاصة قراءاتها، على شكل (حلول تربوية لمشكلات الطفولة)، مستعينة بتجربتها العملية، بعد أن تخرج ابنها الأكبر في كلية الطب بالجامعة الأردنية، واتقن إضافة إلى ذلك فنوناً من الموسيقى، ضمن موهبته واهتماماته وهواياته، بينما التحق ابنها الثاني بكلية الهندسة، وما زال الثالث في المدرسة .
أتحدّثُ عن الزميلة «خولة مناصرة»، وأقول إنها (زميلة)، بحكم عامل مشترك يجمعني بها، وهو أننا كلانا نكتب في صفحات (التربية) هذه، وإني لم أتعرّف إليها إلا من خلال تلك الكتابة . وقد أهدتني نسخة من كتابها الذي صدر مؤخراً بدعم من مديرية الثقافة في أمانة عمان الكبرى، وحمل الكتاب عنواناً وجَدْتُهُ موحياً، يبعث في الذهن صوراً وظلالاً وأبعاداً، وهو: (طفلي يشغلني). ولعلَّ كل من خَبِرَ تربية النشء، يدركُ أن جميع أصول التربية، ووسائلها، ومداخلها ومخارجها، تغدو بلا طائل ولا جدوى، ما لم نبذل لأبنائنا الجهد والوقت والأعصاب، أي ما لم (ننشغل بهم)، وتصير كل قواعد التربية وفنونها وتفاصيلها التي قد نتشدق بها، مجرد هباء بلا معنى، إذا (انشغلنا عنهم) .
انتهجتْ المؤلفةُ في كتابها أسلوباً مبسطاً، لغته سليمة، وسَبْكُهُ جيد، واعتمدتْ خطاباً سهلاً عملياً، قريباً من الواقع، وموجّهاً غالباً إلى الأم . وعمدت إلى عرض المشكلة بإيجاز يتضمن أمثلة مختصرة، يليها التطرّق إلى اقتراحات وإرشادات وحلول عملية، تعرضها الكاتبة بشكل نقاط في غالب الموضوعات، وهي نحو سبعة وثلاثين موضوعاً، صاغت معظم عناوينها على شكل سؤال يبحث عن إجابة، وتناولت في تلك الموضوعات كثيراً من الجوانب والمشاكل التي يجد الوالدان نفسيهما أمامها، خلال رحلتهما الشاقة في تربيتهما للأبناء .
على أية حال، لا أحسب أن ثمة إنجازاً يبعث لدى الشخص السَويّ شعوراً بتحقيق الذات، وأداء الرسالة في الحياة، مثل شعوره بأنه قام بدوره السليم تجاه أبنائه، وأدى واجبه نحوهم، وغمرهم بحبه، وأحاطهم برعايته وعطائه . وليس ثمة في المقابل شعور يجرح وجدان المرء السوي، ويرسل في ضميره الندم، كإحساسه بأنه قصّر حيال أبنائه، أو كان بوسعه أن يعطيهم أكثر لكنه انشغل عنهم . ذلك أن عاطفة الأمومة (والأبوة) من أكثر الدوافع امتزاجاً بالفطرة السليمة، كما أنها أقوى العواطف، وأكثرها صدقية، وأشدها تفجراً بالمحبة والإيثار والعطاء . وهذا ما يحدثنا به علماء النفس حين يشرحون تجاربهم في مجال الغرائز والدوافع، فيقولون إن الفأرة المسكينة (من فئران التجارب) تتحمل صعقات كهربائية ذات درجة أعلى، وهي تكرر محاولة اختراق الحاجز الذي يفصلها عن صغيرها للوصول إليه من تلك الصعقات التي تتحملها للوصول إلى الغذاء أو الماء أو إلى الذكر .
وبعد، فبالإضافة لما قد تتضمنه الكتب التربوية القيّمة، ككتاب السيدة خولة الذي أشرنا إليه، من توضيحات وإرشادات مفيدة تنفع الوالدين في أدائهما لأهم دور في حياتهما، فإن مثل هذه الكتب تسهم كذلك الحال، في تغيير الثقافات السلبية التي ترتبط بالتربية، وتخرجها عن وظيفتها الصحيحة، كما تسهم في بناء المفهوم السليم لها (أي للتربية) في النفوس والعقول، بوصفها نشاطاً إنسانياً، أصوله ودوافعه فطرية طبيعية، وجوهره المحبة والعطف، ومحوره الرعاية والاهتمام و(الانشغال بالأبناء)، وهدفه إعداد النشء للحياة على نحو سليم، وليس ممارسة التملك والاستثمار المادي، ولا الجاه والعزوة والتفاخر، ووسائله متعددة، لكن ليس من بين تلك الوسائل القمع والتسلط والقهر .
المفضلات