احباب الاردن التعليمي

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: غيبوبة المثقف أم سقوطه؟

  1. #1
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Wed Jun 2008
    الدولة
    صانعة رجال البواسل رجال الهيه المملكة الهاشمية
    المشاركات
    146,552
    معدل تقييم المستوى
    11586669

    غيبوبة المثقف أم سقوطه؟

    ملحق الثقافة




    غيبوبة المثقف أم سقوطه؟






    د.خالد عبد الرؤوف الجبر - المشهدُ أكثرُ من فجيعَة، وأنكى من سُقوط، وأعمقُ من عُزوف ظاهرِيّ!.
    هل فقدَ المفكّرونَ والمثقّفونَ والأدباءُ جاذبيَّتهم وتأثيرَهم، أم إنّ مشاغلَ الحياةِ اليوميَّة، ومُلاحقةَ لقمةِ العيشِ المربوطةِ بخيطٍ كلّما اقتربَ النّاسُ منها جُذِبَت عنهم بعيداً بحنكةٍ ودرايةٍ وخُبْثٍ أحيانا، هي السّبب؟.
    ولماذا إذا حطَّ زائرٌ، أو عابرٌ، ليلقيَ محاضرةً، أو يشاركَ في ندوةٍ، أو ...، تضجُّ القاعاتُ بالحُضورِ من كلِّ فجٍ عميق؟ ألأنَّ الزّائرَ، أو العابرَ، يمتلكُ ما لا يمتلكُه مفكّرونا ومثقّفُونا وأدباؤُنا من قدرة على التّحليلِ، أو المعلومات، أو لُغة الخِطاب والحِوار والجِدال والمناظرة، أم لأنّهم يمتلكُونَ أشياءَ أُخرى غيرَ هذه؟.




    لعلَّ ما تثيرُه هذه التّساؤُلاتُ كانَ مدارَ حِواراتٍ وأحاديثَ جانبيّةٍ كثيرة في المدّة القريبةِ الماضية، خضَّ فيها المتكلّمونَ من الأصدقاء ومخضُوا ورضُّوا. ومع كلِّ ما قِيل ويُقالُ وسيُقالُ، فإنّ غيابَ تأثيرِ الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ في الواقعِ أمرٌ يلحظُه الجميع، ويعي الجميعُ خُطورتَه وسلبيّاتِه السّوداء التّدميريّة التي يمكنُ أن يترُكَها على جسدِ الوطن والمُواطن، ويلمحُ تشكُّلَ البيئةِ المناسبةِ للفسادِ التي ينجحُ بالتّدريجِ في بنائِها وتهيئتِها للفاسدين والمفسدين، بما يجعلُ خُطورتَه وأثرَه شديدينِ في الواقعِ المَعيش، والمستقبلِ المنظُور والبعيدِ أيضا.
    يركّز كثيرونَ في تحليلهم للظّاهرة على قشورِها الخارجيّة، ويُهيلونَ التُّرابَ على اللُبِّ. فهم مثلاً يُعيدُون عُزوفَ النّاس عن المُحاضراتِ والنّدَواتِ والأمسياتِ والمؤتمراتِ إلى الانشغالِ بمُلاحقةِ شُؤونِ العيش، وتآكُل الرّواتب، والغلاء الفاحشِ غيرِ المبرَّرِ الذي يقودُ إلى ثراءاتٍ فاحشةٍ غيرِ مبرّرة قِبالتَه؛ وإلى ارتفاعِ أسعار المواصلاتِ على الجُمهورِ الذي يحبّ الفكر والثقافة والأدب (مع انخفاض أسعار المحروقاتِ عالميّا!)؛ وإلى ترامِي سُكْنى هؤلاء بعيداً عن مقرّات انعقادِ هذه الفعاليّات ومراكِزها المعروفة.
    وهم أحياناً يُلقُون تَبِعةَ ذلكَ العُزوفِ على تغيُّر الذّوق العامّ للنّاس، وميلِهم إلى السّريعِ الخفيفِ غير الجادّ والملاهي والمعازفِ والقِيان، وإلى انحدارِ المستَوى الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ لجُمهور النّاس؛ بما يجعلُهم يهربُونَ من حُضورِ الأنشطة الفكريّة والثقافيّة والأدبيّة.
    وتمتدُّ القشُورُ الخارجيّة لتطُولَ كثرةَ عددِ المؤسّسات الثقافية والفكريّة والأدبيّة، ومراكز البحوث والدراسات، والجامعات والمعاهد والمنتديات، وتعدُّد الجهات المشرفةِ على هذه المؤسسات وتنوُّعِها، واختلاطِ الحابلِ بالنّابلِ في عقدِ فعالياتِها وأنشطتِها، فلا تنسيقَ ولا ترتيبَ ولا مُراعاةَ؛ حتّى إنّ الواحدَ ليجدُ مؤسّستينِ أو ثلاثاً تُناقشُ الموضوعَ نفسَه في الأمسيةِ نفسها!.
    ولو أنّ هذه المؤسّسات ظلَّت نقابيّة أو حزبيّة، أو خاصّة، لكانَ الأمرُ أهونَ؛ لكنّ القطاعَ الرّسميّ صارَ لهُ باعُه وذراعُه الطّويلانِ في الشّأنِ الثقافيّ بصُورة جادّة واضحة، وصارت بعضُ مؤسّسات القطاعِ العامّ تُنفقُ على الجانب الثقافيّ شطراً من مداخيلِها ومُوازناتِها. وهذا ليس سيّئاً في ذاتِه، وليس مرفوضاً تماماً؛ فلعلّ القطاعَ العامّ أصبحَ ينظرُ بعينِ الرّيبةِ حيناً، أو الغَيرةِ آخرَ، أو الرّغبةِ في المُجاراةِ والمُضاهاةِ ثالثاً، وهذا كلّه مشروعٌ مُسوَّغٌ ممتاز؛ لكنّ المشكلةَ أنّه يُقبلُ أحياناً على الاهتمامِ بهذه الشّؤونِ راغباً في إضعافِ تلك المؤسسات وتهميشِها وإلغائها بعدَ مدّة من الزّمن، حينَما ينجحُ في تجريدِها من تأثيرِها، ومن روّادِها أيضا!.
    وقد ينهالُ أحدُ المحلّلين بعُذرٍ أقبحَ من ذَنْب، عندَما يرجّح أنّ التّكنولوجيا هي السّبب، فكثيرٌ من روّاد هذه الفعاليات والأنشطة أصبحُوا –في رأيه– يتابعُونَها عبرَ الإنترنت وشاشاتِ الفضائيات، وكأنّ الشّعب الأردنيّ كلّه يمتلكُ حَواسيبَ ثابتةً ومحمولة، وكأنّ النّاس جميعاً يستخدمونَ الإنترنت، ولديهم متابعة لما في الفضائيات التي لا تغطّي واحداً بالألفِ من هذه الأنشطة، وكأنّ أهل الفكر والثقافة والأدب من المدمنين على التكنولوجيا، وواقعُ الأمرِ أنّ كثيراً منهم يعزف عنها، ويجتنبها، وبعضهم لا يعرفُ كيفَ يتعاملُ معها إلى يومِنا هذا! بل إنّ هذه التقنيّات تغطّي الفعاليّاتِ التي يشاركُ فيها الزّائرونَ والعابرونَ أكثرَ بكثيرٍ جدّا ممّا تغطّي –حتّى الصّحافة المطبوعةُ منها – فعاليّات المفكّرين والمثقّفين والأدباء المحلّيّين!.
    والحقُّ قد لا يرفضُ أكثر هذه التّحليلات، وقد يُقرُّ بأنّ بعضَها قشريٌّ لكنّه لصيقٌ باللُبّ، ممازِجٌ له ومُتداخلٌ مَعه. لكنّ أحداً من الرّاغبين في بُلوغِ الحقيقةِ لو عدَّ الحاضرينَ في كلِّ هذه المنتدياتِ والمؤسساتِ على مدارِ أسبوعٍ كاملٍ لوجدَهُم لا يتجاوزونَ المائتين في أقصى التّقديراتِ تفاؤُلاً، على أنّهم قد يتكرّرون أو يتكرّر أكثرُهم في منتدياتٍ أو نشاطات عدة؛ لكن لماذا كانَ الحضورُ يومَ جاءَ عبد الحليمِ قنديل إلى رابطة الكتّاب الأردنيين يقرُب من ذلكَ، لماذا؟
    وهل كانَ النّاسُ في السّبعينياتِ والثمانينياتِ والتّسعينياتِ من القرنِ الماضي أفضلَ من ناحيةٍ معيشيّة واقتصاديّة ممّا هُم عليه الآن؟ ألم يكُن البلدُ كلّه تقريباً يُعاني من الفقرِ وضيقِ ذاتِ اليدِ والجَيب والصّدْر؟ ألم تُكن المواصلاتُ أصعبَ وأعقدَ؟ كانَ ذلكَ كلّه، لكنّ النّاس كانُوا يُقبِلُونَ على المؤتمراتِ والنّدواتِ والمحاضراتِ والأمسياتِ في ما مضى!.
    أينَ هي المشكلةُ إذاً؟
    إنّ الذين يُنحُون باللائمةِ على الجُمهورِ هُم أجهلُ النّاس بأمور النّاس؛ بل هُم من الذين يتعاملونَ مع الجُمهور بفوقيّة، ويتعالَوْنَ عليه، وينظُرون إليه بعينِ الاستهانة والاستصغارِ والاحتقار، بوصفِه جُمهوراً غيرَ معنيٍّ بالفكر والثقافة والأدب. بل لعلّي أقول: إنّهم يتّخذونَ من هذا "العُذرِ القاصرِ" مطيّة لهم، ومسوِّغاً لقولِهم: "إذا كانَ النّاسُ لا يريدُونَ الفكر والثقافة والأدب، لا ردَّهُم الله! فليكُونوا جَهَلة، أليسَ هذا ما يريدُون؟".
    النّاس متعطّشونَ للفكر والثقافة والأدب؛ لكنّهم ليسوا متعطّشينَ للخُزَعْبَلاتِ والتُّرّهاتِ والهرطقاتِ والألاعيبِ اللونيّة والحركيَّة واللفظيّة الفارغةِ الجَوفاء، تلكَ التي تُدَّعى زُوراً وبُهتاناً: فكراً وثقافةً وأدباً!.
    الجُمهورَ الذي يعزفُ عن حُضورِ فعالياتٍ هي خُزَعبلاتٌ وفُقّاعاتٌ عبثيَّة هُو أكثرُ وعياً وثقافةً وأرفعُ ذوقاً من منظّميها والمشاركين فيها، وهو نفسُه الجُمهورُ الذي يُقبلُ على مُحاضرةٍ ممتازةٍ لمحاضرٍ موثوق، أو أمسيةٍ شعريّة لشاعرٍ موثوق، أو ندوةٍ حقيقيَّةٍ لمنتدينَ موثوقين!.
    لقد سبقَ أن شاركتُ في مهرجانِ الأردنُ العامَ الفائت، في أمسية شعريّة احتضنتها قلعةُ عجلون، وكانَ الأمرُ مَهُولاً! أيّ جُمهورٍ هذا الذي سيأتي بعدَ أمسية كتلكَ إلى أمسيةٍ شعريّة يقرأ فيها بعض الشّعراء –وفيهم أسماء كبيرة عربيّة– كلاماً لا علاقةَ لهُ بالشِّعر الذي يمكنُ أن يُلْقَى على أسماعِ جُمهورٍ خليطٍ من الأطفال والكبار، والنّاضجينَ وغير النّاضجين، والمتعلّمين والأمّيّين، والذوّاقة المتمرِّسينَ والنظّارة المتفرّجين والشّباب اللاهين؟ ثمَّ يتشدّق أحدُ المسؤولين عن تنظيم تلكَ الأمسياتِ في وزارة الثقافة حينَها قائلاً: "هل تنزلُ إلى مستَوى الجمهورِ وتأتي لهُ بشعراء قصيدةٍ عموديّة تقليديّة؟ إنّنا نريدُ أن نثقّف النّاس وننمّي ذائقتهم الشّعريّة بقصيدةٍ جديدة متميّزة"! أقول: إنّ مثلَه يحتاجُ إلى من يثقِّفُه أوّلاً، ويحتاجُ إلى من يعلِّمُ أمثالَه اللياقةَ واللباقةَ في التّعامُل مع الجُمهور، وفي النّظر إليه نظرةَ احترام؛ احترامٍ لشخصِه أوّلا، واحترامٍ لذوقِه ثانياً، واحترامٍ لرؤيتِه ثالثا... على الأقلِّ بأن يكونَ في مثلِ هذه الفعاليّاتِ تنويعٌ بينَ هذا وذاك!.
    المشكلةُ قائمةٌ هُنا، أو في أقلّ تقدير: جانبٌ كبيرٌ منها. أمّا الجانبُ الآخرُ، وهو صُلْبُها، فهو الموثوقيَّة والصِّدْقيَّة!.
    منذ عقدين تقريباً والثقافيّ على علاقةٍ بالسّياسيّ، لكنّها علاقةٌ غيرُ شرعيَّة؛ باطلة؛ حَرام!.
    منذ عقدين تقريباً والثقافيّ يبتعدُ عن الثقافة، والفكريُّ ينأى عن الفِكر، والأديبُ يتهرّب من الأدب، وكلُّهم ينظُر بإحدى عينيهِ، أو كلتيهِما، إلى السّياسيّ!.
    منذ عقدين تقريباً والعلاقةُ بين هؤلاء وبين السّياسيّ إمّا علاقةُ غَزَلٍ ومُداعبَة ونِفاق، وإمّا علاقةُ شقاقٍ وفراق وطلاق!.
    لقد رُكّزت الأمورُ كلّها في يد السّياسيّ، وسُلِّطَت الأضواءُ عليه. وغُيِّبت الثقافةُ وأُقصيَ الفكرُ وهُمِّشَ الأدب، وانحسرَ الأكاديميّ ليصبحَ مكتفياً بالتّعليميّ، وفقد المجتمعُ أعضاءَه الدّاخليّة التي تحفظُ عليه اجتماعيَّتَه، وأطرافَه التي تُعينُه على الحركة، وحواسَّهُ التي تمكِّنُه من تلمُّسِ طريقٍ لخُطاهُ بلا عثارٍ أو سُقوطٍ في الحُفر!.
    هكذا، تغلَّبَ الفكرُ الاستهلاكيّ المعنيُّ بِـ"السّاندويتشات"، أو الفكرُ القمعيُّ الاستبداديُّ ونظيرُه التّبريريُّ وكلاهُما يستعذبُ الإهانةَ والهَوان، أو الفكرُ الأرستقراطيّ كحزبيَّة فنادق النّجوم الخمس، وسادَتْ ثقافةُ "الهَلْفَتَة" و"التّهليب" و"الشّطارة" و"الفَهْلَوة"، وشاعَ أدبُ "اللاأدب" و"قلّة الأدب" و"الخرطشات" و"الخربشات" و"الشَّوشرات"، وانقلبَ الحالُ، وتبدّلتْ "غزلانها بقرود"!.
    وهكذا أيضاً، نأى المفكّرون والمثقّفون والأدباءُ الحقيقيّون، ومعهم كثرٌ من الأكاديميّين الجادّين المبدِعين، بأنفسِهم عن السّاحة، و"خَلا الميدان لحميدان"، وصدقَ فينا المثلُ القائلُ: "إنّ البُغاثَ بأرضِنا يستنسرُ"!.
    وهكذا، فقدَ المجتمعُ من يُنيرُ الطّريقَ أمامَه، ويبصِّرُه بأخطائه وزلاّته، ويكشفُ عُيوبَه واختلالاتِه بلا مُواربةٍ أو تجميلٍ أو لملمةٍ أو سَتْرٍ، ولهذا انتشرَ الفسادُ وعشَّشَ وفرّخ، وأصبحَ الفاسدونَ المفسدونَ يسرحُون ويمرحُون في البلادِ طُولاً وعرضاً كأنّما هيَ ترِكَةٌ لهُم، واتّخذوا الوطنَ والمُواطنَ عبيداً!.
    السّياسيُ يتعاملُ مع المتغيّرات؛ يُعالجُ الشّؤونَ في ظلِّ تغيُّر المَوازين أو اعتدالها أو انقلابها. إنّ السّياسةَ -في بلادِنا على الأقلّ– هي فنُّ التّعامل مع الرّاهن لا المستقبل، فإذا ما رقيَ السياسيّ ببصرِه نحو القادمِ فليسَ لحقبٍ طويلة؛ بمعنى أنّ السّياسةَ فقدت القدرةَ -في غمرة الانشغال بالرّاهن- على الرّؤية الاستراتيجيّة!.
    والفكريّ والثقافيّ والأدبيّ يركّز كلّهم على الجماليّ الإنسانيّ المبدئيّ، وعلى الوطنيّ والقوميّ، ويشتغلونَ على الوعي الاجتماعيّ الممتدّ بما يرسِّخ قدرة المجتمعِ على تجاوُز تأثيرات الرّاهن، ويمكّنه من الدّيمومةِ في ظلّ التغيّرات، ويُضفي عليه صفةَ المتانَة والحصانةِ قبالةَ الجارفِ العاتي.
    بل إنّ الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ هم الذين يمكّنون المجتمع من المحافظةِ على توازُنه حينَ يكيّفونَ جوانبَ كثيرةً من المؤثّرات الطّارئة ليفيدَ منها المجتمع، بدلاً من أن تصبحَ وبالاً عليه ودَماراً لمستقبلِه.
    ليس معنى ما تقدّم أنّ هذا الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ يعملُ نقيضاً للسّياسيّ، أو يشتغلُ بما يعطّله أو يلغيه؛ إنّما يبصّره ويكشفُ له وينبّهه، ويعلّق الجرس دائماً، ولعلّه يصرخُ عالياً حينَ يكونُ مصيرُ البلادِ وأهليها معرَّضا لخطر الفِتن والظّواهر السلبيّة، ويقفُ بقوّة في وجه الفسادِ والطّغيانِ والقمع والاستئثارِ وانتهاك الحقوق والحُرمات والكرامات!.
    إنّ لحاقَ الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ بالسّياسيّ قد يكونُ له ما يسوّغهُ أحياناً، لكن ليس دائماً. هذا حين نتحدّث عن المصلحة العامّة، وحينما يتّفقُ الجميعُ على المصلحة العامَّة؛ لكنّ الجُمهورَ يبحثُ عن الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ المخلصِ الغَيُورِ الموثوق الصّادق غيرِ المُتعالي؛ لا الذي يُطلُّ عليه من "برجه العاجيّ" أو نوافذهِ الفضائيّة، ولا المنتفع الرّاقص على الحبال، ولا الشّائهِ المشوِّه المنبتِّ السّاعي إلى مصلحتِه الخاصّة الضيِّقة!.
    حينَما يسعى الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ ليكونَ سياسيّاً يفقدُ دورَه، ويعزلُ نفسَه عن الجُمهور والنّاس، ويتضاءَل في عيونِهم لأنّه يصبحُ كالقُرودِ المدرّبة على الرّقصِ في أيّ سيرك: مَثاراً للضّحك والسُّخرية والهُزءِ والتندُّر. وقبالةَ ذلكَ، فإنّ السّياسيّ الذي يُصرُّ على تدجينِ الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ يفقدُ موازِناً حقيقيّاً للمجتمَع، ويُصبح كالطّيرِ المهيضِ جَناحُه، مهما يُحاوِل الطّيرانَ فإنّ قُواهُ تخونُه، ولا تمكِّنه من الارتقاء للتّحليقِ عالياً!.
    لقد فقدَ أكثرُ مفكّرينا ومثقّفينا وأدبائِنا، ومعهم كثير من أكاديميّينا ونقّادنا وإعلاميّينا، القدرةَ على التّأثير؛ لأنّنا ننظرُ بعينٍ إلى الواقعِ الذي يأخذُنا ويستهلكُ كثيراً من طاقاتِنا، وبالعين الأُخرى إلى السياسيّ الذي نريدُ أن نكونَه، أو نكونَ جُزءاً منه. هكذا، جرَّدْنا فكرنا وثقافَتنا وأدبَنا من أيّ قيمةٍ حقيقيَّة في نُفوسِنا، وقتلناها في عيونِ النّاس؛ وهكذا فقدنا قيمتَنا نحن يومَ هُنّا على أنفسِنا فهُنّا على السياسيّ وفي عُيونِ النّاس.
    نريدُ مفكّرينَ واعِينَ لا ببّغاواتٍ تعلكُ معرفةً لا رُسوخَ لها في واقعِ النّاس، ولا تُسهِمُ في ترقيةِ أحوالهِم، ونريدُ مثقّفينَ واعينَ مهتمّينَ لا مُتعالينَ يملأُ الكِبْرُ نفوسَهُم وهم لا يملكونَ شَرْوَى نَقِير، ونُريدُ أدباءَ أريبينَ لا يكتُبونَ وهُم في غمرةٍ لاهُون، ولا مهرطقينَ يسعَونَ إلى الشُّهرةِ بالشَّهوة، أو بالتّقليدِ النّاتئ الذي ينادِي بملء صوتِه على كونِه تقليداً مشوَّهاً!.
    نريدُ مفكّرا ومثقّفاً وأديباً ملتصقينَ بالنّاسِ، بالمجتمع، قريبينَ من شؤونِ البلادِ والعِباد (لا العبيد) وقضاياهم وهُمومهم وآلامهم وآمالهم، لا منعزلينَ يجلسونَ إلى فناجينِ قهوتِهم، أو كُؤوسِ (...) مساء ليكتُبوا أو يقولوا ما يظنّون النّاسَ يحتاجُون إليه، فيفرضونَ عليهم أن يسمعُوا أو يقرأوا ما لا يُهمّهم.
    نريدُ مفكّراً ومثقّفاً وأديباً يفهمونَ علاقاتِهم بأنفسهم وبمجتمعهم وبواقعِهم وبالنّاس، وبالسّياسيّ أيضاً، فلا هُم تبَعٌ له، ولا هُم أعداء، وينظُرون إلى الآتي الوافدِ والقادمِ الدّاهم بعين التّدقيق والحصافة؛ ويكفي أنّ نردّد هُنا قوله تعالى: "فأمّا ما ينفعُ النّاسَ فيمكُثُ في الأرضِ، وأمّا الزّبَدُ فيذهَبُ جُفاءً".
    يومَ نُؤمنُ بدَورِ الفكرِ والثقافةِ والأدب العميقِ الجادِّ الخطير في بناء المجتمعات، وبأنّ أدوارَ أهل الفكرِ والثقافةِ والأدبِ، ومعهم الأكاديميّون، ليست أقلّ شأناً من دَور السّياسيّ، بل لعلّها تزيدُ عن دَوره، حينَها ستعجّ القاعاتُ بالحُضور!.
    وإلى ذلكَ الحينِ، لا بأس علينا في أن نُجاملَ أنفسَنا، أو نحشدَ بالوسائلِ الخادعةِ الوهميّة حُضوراً مُفتَعلاً شكليّا لنقول: قد نجحَت الفعالية، وحقّقت غاياتها، فالحُضورُ كانَ جيّداً جدّاً!.






  2. #2
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sat May 2007
    الدولة
    أم الدنيا وارض الكنانه
    العمر
    39
    المشاركات
    120,668
    معدل تقييم المستوى
    21474973
    إنّ الذين يُنحُون باللائمةِ على الجُمهورِ هُم أجهلُ النّاس بأمور النّاس؛ بل هُم من الذين يتعاملونَ مع الجُمهور بفوقيّة، ويتعالَوْنَ عليه، وينظُرون إليه بعينِ الاستهانة والاستصغارِ والاحتقار، بوصفِه جُمهوراً غيرَ معنيٍّ بالفكر والثقافة والأدب. بل لعلّي أقول: إنّهم يتّخذونَ من هذا "العُذرِ القاصرِ" مطيّة لهم، ومسوِّغاً لقولِهم: "إذا كانَ النّاسُ لا يريدُونَ الفكر والثقافة والأدب، لا ردَّهُم الله! فليكُونوا جَهَلة، أليسَ هذا ما يريدُون؟".
    يعطيكِ العافيه

    اشكرك

    احترامى

  3. #3
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Wed Jun 2008
    الدولة
    صانعة رجال البواسل رجال الهيه المملكة الهاشمية
    المشاركات
    146,552
    معدل تقييم المستوى
    11586669

  4. #4
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sat Nov 2008
    العمر
    33
    المشاركات
    8,313
    معدل تقييم المستوى
    24

  5. #5
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Wed Jun 2008
    الدولة
    صانعة رجال البواسل رجال الهيه المملكة الهاشمية
    المشاركات
    146,552
    معدل تقييم المستوى
    11586669

المواضيع المتشابهه

  1. ما الفرق بين الانسان المثقف والانسان المتعلم ؟؟
    بواسطة fado في المنتدى المنتدى المنوع
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-04-2012, 06:08 PM
  2. الشيطان المثقف!!!
    بواسطة بنت النبهان في المنتدى المنتدى المنوع
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 30-12-2011, 11:01 PM
  3. .../ صمت المثقف ..~
    بواسطة بنت النبهان في المنتدى الحوار الجاد - حوار الاحباب الساخن
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 13-07-2011, 09:56 AM
  4. صوت المثقف
    بواسطة الاسطورة في المنتدى جريدة الراي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 10-07-2010, 11:56 AM
  5. الشيطان المثقف !!!
    بواسطة ناناة في المنتدى المنتدى العام
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 12-04-2010, 01:23 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك