ابواب
شخصية شعبية : احمد الكايد.. بائع متجول للجرائد المحلية منذ ستين عاماً
منذ ستين عاماً ما زال «احمد كايد» أبو فايز والمعروف ب «الكايد» يحمل جرائده الاردنية متجولاً على قدميه في شارع الملك طلال يوزع الجرائد على زبائنه هناك يومياً حتى هذه اللحظة.. لذلك فقد أصبح الكايد علماً من أعلام شارع طلال الشعبي الشهير.. فما من محل تجاري فيه لا يعرف الكايد.. حتى ان العلاقة قد اصبحت علاقة مودة ومحبة كبيرة مع هؤلاء الزبائن واولادهم واحفادهم والذين منهم لا ينادون الكايد الا بلفظة «عمي» أو العم كايد.
ففي العام 1950 بدأ احمد الكايد وهو في سن العاشرة يبيع الجرائد اليومية الاردنية بعد دوامه في المدرسة لكي يربح بعض القروش القليلة ثم يترك المدرسة ليستمر في هذه المهنة.
ويذكر الكايد من بعض زبائنه قديماً في شارع طلال الدكتور علي الحوامدة والدكتور خليل نصر .. وانه عندما كان ينادي على جرائده في الصباح الباكر في هذا الشارع كان أهالي حي خرفان في جبل عمان المطل على الجامع الحسيني وطلال يصحون من نومهم وكأن صوته منبه اعتادوا عليه للذهاب الى وظائفهم .. ومن العادات التجارية والاجتماعية القديمة في هذا الشارع طلال والذي كان يسمى قديماً بشارع المهاجرين ان اصحاب المحلات التجارية فيه كانوا يذهبون في الصباح الباكر جداً الى المسجد الحسيني لصلاة الفجر ومن ثم يذهبون لفتح محلاتهم للاسترزاق.. عكس هذه الايام فانهم يبدأون بفتح محلاتهم ربما في الساعة التاسعة تقريباًً!! فالمهمة والنشاط كانتا قديماً أكبر من هذه الايام!!.
وفي تلك الفترة القديمة في الخمسينات والستينات عن حياة الناس في عمان يقول متحسراً: لقد كان أهل وسكان عمان بسطاء يرضون بالقليل ولا ينظرون الى ما في يد الآخرين!! فالجار يحب جاره ويحترمه.. والطعام في البيت يوزع منه على الجيران أغلب الاحيان.. لقد كان هناك ترابط أسري وعائلي واجتماعي كبير بين ناس عمان.. وكانت نفسهم طيبة كل واحد يحب الخير لنفسه ولغيره أيضاً.. والجار التعبان مادياً يهب الكل لمساعدته.. والكل يفتحون بيوتهم للجيران عند مناسبات الفرح والعزاء بكل محبة وتعاون وأريحية.
الصحف الاردنية قديما
ومن المعروف منذ (60) عاماً ان الكايد في كل يوم وعلى الرصيف المقابل للجامع الحسيني ما زال يضع جرائده اليومية الاردنية لبيعها لمدة ساعتين او ثلاث.. ثم يبدأ بعدها بالتجوال على قدميه حاملاً جرائده بين ذراعيه لتوزيعها على زبائنه. ثم يقول لأبواب الرأي: من جيلي في بيع الصحف قديما كان كل من فتحي العوضي ورفيق العبد, وزكي العبد وهذا الاخير لم يستمر طويلاً ببيع الصحف في عمان بل انه انتقل الى مدينة الزرقاء وفتح هناك مكتبة معروفة واشتغل هناك حتى توفاه الله منذ سنوات.. ومن الآخرين الذين كانوا معنا ومن جيلنا أو جاءوا بعدنا بسنوات قليلة لبيع الصحف المتجولة في عمان حسن ابو علي واحمد حسن ابو زياد, وسليمان الحوراني وابو زينة وابو الرائد والصادق وغيرهم..
وعن الصحف الاردنية قديماً كانت جريدة (الجزيرة) لرئيس تحريرها الكاتب والسياسي المعروف تيسير ظبيان وكانت تلك الجريدة اليومية تطبع في المطبعة الوطنية الوحيدة في عمان في شارع بسمان تقع على درج ضيق مقابل سينما بسمان تقريباً.. وكنا نبيعها ب (5) فلسات أي تعريفة وهي جريدة يومية مسائية.
وفي الخمسينات كانت أيضاً جرائد: الجهاد والدفاع وفلسطين حيث كانت تأتي من القدس يحضرها شخص اسمه ابو كرم يضعها فوق شبك سيارته التكسي وعددها جميعا (500) جريدة حيث يأخذ كل بائع منا (20 - 30) جريدة لبيعها, وكنا نربح في كل جريدة (15) فلساً فقط.. حيث كنا نبيعها في شوارع عمان القليلة واكثرها في شارع السلط (الملك الحسين) حيث كانت معظم دوائر الدولة في هذا الشارع الوزارات والمحاكم والمستشفيات وشركات الطيران.
وقبل عام 1967 كان احمد الكايد وكيلاً لجريدة المنار في عمان حيث كانت تصدر من القدس ويوزعها على باقي باعة الصحف الآخرين المتجولين مثله.. وكانت تأتي من القدس جرائد أخرى الى عمان غير ما ذكراه سابقاً وهي: البلاد, الصريح لرئيس تحريرها هاشم السبع, والمشاء أيضا. بينما جريدة عمان المساء كانت تصدر في عمان ورئيس تحريرها عرفات حجازي. ومن عمان أيضاً كانت تصدر جريدة الاردن لرئيس تحريرها خليل نصر وكان مقرها قرب المحكمة في شارع الملك الحسين حيث ما زالت آثار مبناها موجودة حتى الآن ولكنها مهجورة. وكذلك جريدة أخبار الاسبوع وهي اسبوعية صدرت من عمان لعبد الحفيظ محمد.. اما مكتب جريدة الجهاد فقد كان في طلعة صغيرة مقابل سينما زهران.
أماكن تعيش في قلبي
يتذكر بائع الصحف العريق الكايد ان من أشهر الشوارع في عمان قديماً كانت شوارع: السلط (الملك الحسين) والمحطة والملك طلال والملك فيصل وبسمان.
فشارع المحطة مثلاً كان معروفاً بتخصصه ببيع قطع ولوازم وكراجات السيارات.. وهذا الشارع هو أيضاً الطريق المؤدي الى محطة القطار والمطار والى منطقة (خو) حيث كنا بعض الباعة نحمل صور الملك عبدالله الاول مؤسس الاردن لنبيعها الى الجمهور هناك الذي كان يأتي للاشتراك في مشاهدة الاحتفالات الرسمية والشعبية التي كانت تقام هناك مثل ذكرى يوم الجيش والاستقلال.. وتلك المنطقة قريبة من الزرقاء. لذلك فقد سمى شارع المحطة فيما بعد باسم شارع الملك عبدالله الاول.
وفي منطقة المحطة أيضاً كان يوجد قديماً ملعب ترابي كبير وشهير تقام عليه مباريات كرة القدم في الخمسينات يسمى ملعب المحطة حيث كانت تذكرة المشاهدة ب (5) قروش فقط.. اما الملعب الثاني فيما بعد والذي اصبح اكثر تقدماً من ملعب المحطة فانه ملعب الكلية العلمية الاسلامية في جبل عمان.
وعن النوادي الشهيرة آنذاك فقد كانت: الفيصلي, الجزيرة والاهلي. ومن اللاعبين: عبدالله ابو نوار, الجقة, البنا.. الخ.
وعن الشوارع الاخرى يذكر شارع الملك فيصل حيث كان وما زال هذا الفندق الشعبي والفخم في نفس الوقت وهو فندق (بالاس) والذي يقع مقابل سوق الصاغة وبجانب سوق منكو, حيث نزل فيه قديماً بعض ضيوف الاردن من الفنانين المشاهير مثل: مريم فخر الدين وزوجها المخرج عزالدين ذو الفقار وكذلك المطربة الشهيرة صباح.
وكان هناك فندق آخر فخم كونتننتال في اجمل شوارع عمان وهو شارع بسمان والذي هُجر.. وقد تحول مؤخراً لمكاتب تجارية.
ورجوعاً الى شارع الملك طلال هذا الشارع الاثير على نفس الكايد حيث كل محل تجاري فيه يعرفهم الكايد وهم يعرفونه من خلال التعامل ببيع الصحف يومياً منذ اكثر من نصف قرن.. يحدثنا عن بعض اماكن هذا الشارع الشعبي القديم اذ يقول: لقد أسس سوق الخضار القديم فيه بعد سوق الخضار الاقدم بالجملة والموجود بجانب سوق السكر.. وكان مكان هذا السوق في شارع طلال مقبرة قديمة وبجانبها ليس بعيداً قرب السيل سوق اسبوعي للحلال بيعاً وشراءً.
ومن الاماكن الاخرى العزيزة على قلب الكايد قديما في الخمسينات يتذكر مثلاً جسر الحمام الخشبي الذي كان مخصصاً لمرور المارة فقط قرب سينما الحمراء والذي استبدل فيما بعد بجسر اسمنتي لتسير عليه السيارات والمارة.. كذلك الجسر الخشبي قرب سرفيس الجوفة فوق سيل عمان .. وأيضاً مبنى مكتبة الامانة ومبنى عمارة منكو أول شارع الهاشمي خلف سبيل الحوريات ذي الحجر الابيض الفخم الصامد حتى هذه اللحظة بجمالية نادرة.
كذلك مبنى فندق فيلادلفيا مقابل المدرج الروماني حيث كانت بالقرب منه نبعات ماء وبرك سباحة بدائية من سيل عمان النظيف حيث كان يسبح مع زملائه ايام العطل اذ كانت مياه البركة هذه باردة صيفاً ودافئة شتاء.. كذلك نادي عمان البارز قرب سينما زهران الشهير.
ومما يذكره أخيراً مطعم الكلحة الشهير في عمان والذي كان يقع تحت مقهى السنترال حيث كان الكايد وبعض زملائه من باعة الجرائد يأكلون الفول والحمص فيه بثمن مخفض عن باقي الزبائن بقرش ونصف للصحن مع الرغيف.. بينما كان صاحب المطعم يتجول على الزبائن في مطعمه حاملاً زجاجة زيت الزيتون ليزيد الصحون زيتاً آخر على صحون الزبائن هاشاً ومرحباً بهم.
هموم أكشاك الصحف
ومن اكثر من ثلاثين عاماً قامت امانة عمان وبالتعاون مع نقابة الصحافيين الاردنيين بانشاء اكشاك لباعة الصحف المتجولين حتى يستقروا بعد توزيعهم الصباحي للصحف في اماكن خاصة تحميهم من البرد والحر ولتؤمن لهم لقمة عيش أفضل .. وذلك مقابل ان يبني كل بائع كشكه ويدفع سنوياً (300) دينار لنقابة الصحافيين.. وظل الامر رائعاً فقد شعر باعة الصحف القدامى انهم قد كرموا وان جهودهم في بيع ونشر الصحافة اليومية على الجمهور قد كان لها الاثر النفسي الطيب من رعاة الصحافة الاردنية على باعة الصحف المؤسسين الذين حملوا على اكتافهم عبء الاشتراك بمسيرة متقدمة لصحافتنا الاردنية المحلية اليومية.. فهم الباعة حلقة الوصل الهامة ما بين القارىء والصحيفة اليومية.
ما حدث مؤخراً وهو أمر أزعج واقلق العديد من اصحاب اكشاك الصحف هو مطالبة نقابة الصحافيين لهم بدفع (1000) دينار سنوياً بدل ال (300) دينار القديمة!!!.
وهنا يشكو الكايد متسائلاً: ان جمع الف دينار سنوياً أمر صعب في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الجميع هذه الايام!!! فلو كان المبلغ المطلوب (400) أو (500) دينار ربما يهون الامر قليلاً!!!.
فالصحف الاردنية المحلية اليومية تراجع بيعنا لها كثيراً بسبب ظروف العصر مثل ظهور الانترنت ثم تزايد اشتراكات القراء بالجرائد نفسها من مصدرها.. كذلك انتشار الجرائد حتى في بعض البقالات .. فقد كنت ابيع قديماً من جريدة يومية شهيرة ما بين (600 - 700) نسخة!! أما الآن فقد صرت أبيع أقل من هذه الاعداد بشكل كبير!!.
فأيام البيع الكثير للصحف راح.. فقد كنت مثلاً أيضاً أبيع من جريدة الانوار اللبنانية في اليوم الواحد حوالي (1000) جريدة .. حتى ان صاحب جريدة الانوار سعيد فريحة رحمه الله ارسل لي هدية قيمة في ذلك الوقت في السبعينات وهي ساعة يد ذهبية تشجيعاً وشكراً ومكافأة لي.
ومن خلال عملية جمع وطرح وملاحظة فواتير وكميات بيع ومرابح ومرتجعات أجراها أمامنا السيد احمد الكايد لاحظنا ان مرابح الباعة من الجرائد اليومية هو قليل جداً بالفعل لا يصل الى الف دينار في السنة!!! وعندها قال: ان اعتمادنا اصبح على بيع المجلات وبعض الكتب بالدرجة الاولى وليس الجرائد اليومية.
أخيراً وما بين ألم وحسرة وتفاؤل أيضاً قال الكايد: لقد ذهبنا نحن بعض باعة الصحف القدامى الى نقابة الصحافة وامانة عمان واجتمعنا بالمسؤولين هناك وشرحنا لهم أمرنا وتفهموا معاناتنا وكانوا متجاوبين ولطيفين معنا.. ووعدونا خيراً في حل هذه المشكلة.. ونرجو من الله ومنهم ان لا ينسونا وينسوا كفاحنا الطويل منذ (50) أو (60) سنة حيث تحملنا التعب والمشي والحر والبرد في شوارع عمان.. نرجو من الجميع التقدير والعرفان.. وليس الاهمال والنسيان.
وليد سليمان -
رد مع اقتباس
المفضلات