الرداء الأحمر والنقاب الأسود على ضفة النهر
جمعتني الأقدار بعزيز لي في إحدى المدن خارج الحدود حيث لا يلبس الرجال رداءاً أحمر ولا النساء نقابا أسود ولا أثرَ للباسِقاتِ من النخيل في الشوارع.
أبصرتُ الرفيق يجلس إلى طاولة في مقهى غير ذي سقف على ضفاف نهر رقراق ونسيم الخريف يداعب خصلة من شعره الأجعد وقد ارتدى حلّة قشيبة قسّمها إلى بنطال وقميص تناسق لونه مع ربطة العنق كأجمل ما يكون التناسق ، وقبالته تحتل الحرم المصون مقعدا وهي تستقبل هذه النسائم الطفولية اللعوب دونما حاجة لرفع الغلاف الأسود الذي ارتفع بارتفاع الطائرة وطوِيَ في الحقيبة ليُعاد اخراجه ونشره على أديم الوجه مرة أخرى حين تهبط عجلات الطائرة على أرض الوطن في رحلة العودة.
صافحت الصديق بحرارة كحرارة فنجان قهوته القابع على الطاولة ينتظر خَلاصَهُ من جحيم السائل الأسود وحرّكت لساني بالتحية لزوجته الكريمة ثم اتخذت لي مقعدا لتبدأ حروف الكلام تتوالى مع توالي قدوم الأطباق وكؤوسٍ من رحيق الفاكهة.
بادرني الرجل يسأل عن شاعرية المكان ولم تخفِ لهجته رجاءا ملحّا كي أوافقه الرأي بالإيجاب ، وقد تمّ له ما أراد ، ثم انبرى محطما القيود والأسوار كماردٍ سئم طول الأسر ليقول بأن قضية اللباس ليست قضية شكل أو مظهر فحسب ، بل هي عقيدة من التقاليد رسخت في العقول ومنعت الإنطلاق لخوض غمار الحضارة دون موانع تقيّد العقل بقيد الموروث ، فمعظم الصراعات الفكرية بين الأفراد في المجتمع أو الصراعات النفسية داخل العقول تستمد أدواتها إمّا من رداء أحمر أوغطاءٍ أسود.
استرسل صاحبنا يكيل التهم جزافاَ لمجتمع يقدّس بعض أفراده الظاهر دون الباطن ، مجتمع حُجِبتْ فيه الأنثى خلف السواد كي لا تبصر بزوغ فجر الإنسانية ، ولا تنفث شرّاً تأبّطتهُ ضد الذكر ، كل ذلك بزعم أنها ناقصة ، هذه المقهورة التي شبّهوها بالجوهرة المكنونة ويالهُ من تشبيه ، هل تستوي طبيعتها البشرية وهي من خلقها الله بعقل يفكر وعاطفة كريمة تحنو وترحم ، هل تستوي مع جماد زجاجي ليس له من اسمه كحجرٍ كريمٍ إلا العدم ؟ ، ثم خافوا عليها من غول الحضارة ذي الأنياب فدفنوها حية في كفن أسود بزعم أنها ذات عِوَجْ حيث غاب عنهم أن خلقها من ضلع أعوج إنما يوحي بنشأتها التي أتت من أضلاع تحيط القلب والصدر والعواطف.
بعدما وضع صاحبي شوكته على الطبق منهيا تناوله للقمة صغيرة أتبعها بجرعة من الماء القراح والزوجة المحبّة ترمقه بنظرات الإعجاب كمن لا ترى وجها غيره من بين مئات الوجوه المحيطة ، أكمل حديثه ليسهِب في وصف عالم الرجل منهيا الى سمعي أن الرجال في مجتمعه مُرْتهنون بعقلية العصور السحيقة من حيث تقديسهم المتناهي للتقاليد الشكلية ، فالأيدولوجيا المزروعة تحت جلودهم تفرض عليهم وضع هذه القطعة الحمراء فوق الرؤوس لتخفي تحتها قماشا أبيضا كنصف كرةٍ شقت بسكين شفيرة وكأن هذا الحوض المقلوب حوافر الماشية تكسر أعواد الزرع كسراً تستحيل بعده الإستقامة ، ثم تساءل بدهشة عن فئة من الأطباء والمهندسين وكيف تقيد حركتهم بالشماغ والعقال المصنوعين في انكلترا وبلاد الأناضول وهم - أي الفئة - أحوج ما تكون للحركة بحرية تامة تبعا للديناميكية التي تتطلبها طبيعة أعمالها ، ثم روى لي على سبيل الدعابة أن ثورا ( من ثيران الغرب الفهيمة! ) فاض به الكيل لينطلق من الحلبة قافزا السياج ومتوجّهاً كالقذيقة للجمهور في المدرّجات لينطحَ سائحا من منطقة الخليج ممّن يرتدون شماغا أحمر ينضح بجهل الصحراء ! ، ( ربما تذكّر الثور خريف الأندلس ) !!!.
لا زال الإنسان – حسب رأيه – يرزح تحت ثقل التقاليد ، فلا مجال لإطلاق الإرادة أو تكريس حرية الفرد التي من شأنها ألا تتقاطع مع حرّيات الجماعة ، فرجل لا يملك الجرأة على تحرير رأسه من قطعة حمراء هو أعجز من أن يرسم الطريق أمامه ، وأمة لا تملك الخروج على أعراف القبيلة هي أمة أعجز من أن تملك زمام أمورها ، وهي أقل مرتبة من أن تفكر بالولوج عبر باب المدنية والانطلاق الى رحاب الحضارة الواسعة باتساع الكون ، لقد أكّد لي هذا الصديق بأن العقال سُمّي كذلك لأنه يعقل ما تحته مثل الناقة تُعْقل لئلا تنطلق فتجوب الفيافي والقفار وكما العقل البشري يمنع من التحليق في آفاق العلوم الرّحبة خارجا من حظيرة ماضيه البعيد.
بالرغم من تحفظي على كثير مما جرى على لسانه ، إلا أني مازلت أتسائل ، ترى هل كان صاحبي على حق؟.
رد مع اقتباس
المفضلات