قريتي حبيبتي"مدين"
بقلم سهام البيايضة
مدين,مدينة كنعانية وردت في العهد القديم باسم مديان وتعني بالكنعانية مركز العدالة أو القانون وقد جاء في معجم البلدان أن مدين هي قرية بأطراف معان من أعمال أهل الشام, وتقع قرية مدين جنوب شرق كير حارسة ( الكرك) وتشرف على المكان الذي وقعت به معركة مؤتة الخالدة.
قال تعالى ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعِبَادِي ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ، لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77 طه ) ،
لقد أمر الله موسى بالخروج بقومه إلى البحر ، ليتجه صوب البحر الأحمر مباشرة ، أقصى الشمال من خليج السويس ، وبعد أن خرج بقومه من البحر ، اتجه شرقا وشمالا بخط شبه مستقيم ، متجاوزا صحراء سيناء وصحراء النقب ، حيث المدخل الجنوبي لوادي عربة ، وسار شمالا في بطن الوادي ، حتى الجبل المعهود جنوب البحر الميت ، ليستقبل الوحي بناءا على الموعد المسبق ، الذي ضرب بينه وبين ربه ، بعد النجاة من فرعون وقومه .
صعد سيدنا موسى بقومه إلى المرتفعات الشرقية ، ودخل الأردن عن طريق الوادي الذي نزل به في أول مرة عندما أسقى للفتيات, ومكوثه ثمان سنوات يعمل فيها عند سيدنا شعيب عليه السلام بعد أن زوجه إحدى الفتاتين.
.” وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ”
لقد سار عليه السلام ,ملتفا حول مملكة الآدومين ومملكة الموآبين شرقي البحر الميت ، ليصل إلى مكان إقامته السابق في مدين قرية شعيب عليه السلام ، ليُمَهّد لهم طيب الإقامة فيها .
المعالم التاريخية الموجودة في المنطقة تخبرك أنها” مدين” التي وردت في القران الكريم .ووجود آثار قديمة تحت القرية العتيقة تضع مؤشرات على أنها” مدين” التي عاش فيها شعيب عليه السلام ,ومما يزيد هذا التاكيد هو وجود قرية أثريه تحت البيوت التي أقامها القاطنين فيما بعد .
للمكان سحر عجيب, يوقظ فيك الفضول ويثير فيك الرغبة بالمعرفة, ويزيد من تمسكك بالأرض التي سارت على أطرفاها أقدام الأنبياء والصالحين.
حدثني كبار السن عن التاريخ وكيف بنيت البيوت العتيقة من الحجر الأسود البازلتي ,التي لا تزال قائمه على عقود قديمة تم اكتشافها فيما بعد واستخدمت من قبل الساكنين مرابض لدوابهم وحيواناتهم.وقد أكدوا لي أنهم وجدوها بالصدفة وأنهم ليسوا من بناها أو أقامها ,وكان من عادة أهل المنطقة أن تتلاصق البيوت من اجل توفير واجهة حائط على باني البيت ,لهذا كانت سطوح البيوت متلاصقة ويصل الأقرباء إلى بعضهم البعض عبر أسقف البيوت المتراصة والمسقوفة بالطين الممزوج بالقش فوق أعواد القصب .
.ومما يثير دهشتك في “مدين “,انتشار الأولاد بعد الشتاء إلى مجاري المياه والسيول حول القرية, للبحث عن قطع النقود القديمة التي يجلبها جريان المياه الجارية تحت ركام القرية القديمة, من أماكن لا علم لهم بها, ثم يقوم هؤلاء الأولاد ببيع هذه النقود في المدينة “الكرك” لأصحاب محلات معروفين بالاتجار بالعملة وجمعها, بمبالغ تعتمد على مدى وضوح الصورة والكتابة التي عليها,توفر مصروف جيد لا بأس به ,وقد حصلت ا شخصيا على بعض القطع الحديدية غير واضحة المعالم إلا من صورة رأس لأحد الشخصيات التاريخية التي استقرت في المنطقة,كما حصلت على فانوس زيت فخاري صغير كان يستخدم للإنارة, دون أن اعرف تاريخه الزمني والى أي حقبة تاريخية يعود, السلطات المحلية , على علم بأهمية المنطقة تاريخيا إلا أنها لم تقم بأي إجراءات بحثيه لتؤكد ما يشاع بين الناس.
ومن طرافة المكان هو قصص الكنوز والباحثين عنها حول القرية وعلى أطرافها ,فلا تلبث أن ترى سيارات غريبة تحمل الباحثين عن الكنوز والذهب, ينشطون في الليالي الشتوية الباردة والعاصفة, تحت جنح الظلام وبعيدا عن عيون أهل المنطقة , وأولادها الأشقياء الذين يلازمون الغرباء ويجلسون لمراقبتهم ليل نهار حتى تركهم للمنطقة.
في” مدين” الآن قصص كثيرة , أصبحت معروفة بين القرى وعند الكثير ممن يعرفون في التاريخ أنها مليئة بالذهب بأشكاله المتعارف عليها في قصصهم, كقطع نقدية يطلق عليها “الفطاير” المقنطرة والغير مقنطرة ,والاسم الأخر هو “الحراذين” وهي قطع اقرب إلى السبائك الذهبية,أما النوع الذي يتناقلون اسمه بكثرة فهو “التبر” وهو على شكل برادة الحديد لكنه ذهب يحتاج الى الصهر والتشكيل ,ولقد أثبتت الأبحاث الجيولوجية وجود عروق للذهب في جنوب الأردن مما يقرب منطق تواجد مثل هذا المعدن في المنطقة , الذي أكدت الحكومة وجوده ,في منطقة وادي أبو خشيبه شمال العقبة ,أما النحاس فالجميع يعلم تواجده بكثرة في الطفيلية ,إلى الجنوب من الكرك .
حمى البحث عن الذهب في المنطقة ,هاجس يراود الجميع ,في الخفاء وفي العلن ,والبحث عن القبور القديمة, وارد وبسهولة,ولا يوجد طفل تجاوز الخامسة عشره من عمره إلا ويحمل قصة عن مغامرات البحث عن الذهب أو نبش القبور القديمة الرومانية والبيزنطية وغيرها من قبور قديمة ,التي يجدون فيها موميات ملفوفة بقطع جلديه وكأنها كيس كبير لحمايتها, داخل أكفان منحوتة من الحجارة تغطى بقطعة كبيره مسطحة من الحجر يطلقون عليها “بلاطة”,يأخذون ما وضع بجانبها من قطع أثريه, ومن أدوات زينه وأنواع من الخرز المتنوعة ألوانه,وأباريق من البلور الملون,وحلي مختلفة ,تباع عند تجار معروفين,تسود بينهم الثقة, والتكتم عن الحكومة التي تمنع الاتجار بالآثار حماية لتاريخ المنطقة وحماية لثرواتها, ومما يزيد من طرافة المكان والباحثين عن الذهب هو الحفر الحديث للأرض الذي تجده منتشرا هنا وهناك ,بين الحين والأخر في أماكن مختلفة حول القرية القديمة, تذكرك بحفريات حيوان” جرذ الأرض” الصغير المنتشر في حقول القمح المجاورة و البساتين .
في عام 1873 قام الرحالة البريطاني ترايسترام برحلة عبر الأردن قادما من القدس عن طريق جنوب البحر الميت ,صاعدا منحدرات الغور وصولا إلى المدخل الرئيس لمدينة الكرك وبوابتها الوحيدة حينها,موثقا هذه الرحلة في كتابه (رحلتي في الأردن) ,فلقد كان يحمل في حوزته خرائط الدولة المؤابية القديمة ومملكة ميشع أول ملك أردني ..وكانت قرية مدين من ضمن القرى المتعددة التي لها أسماء مؤابية مثل مدين ومرود ومحنة ألمعروفه ألان بالعدنانية وعزرا , ومؤتة التي شهدت أول لقاء بين الجيش المحمدي علية الصلاة والسلام وجيوش الروم على ارض وسهول مؤتة التي لا تزال قبور الصحابة رضوان الله عليهم شاهدا عليها,وهناك من يعتقد أن خالد بن الوليد قد عبر بجيشه أثناء الانسحاب العبقري, من الوادي الذي دخل به موسى على الأردن, الذي نزل فيه أول مرة,ومنه إلى جنوب الأردن إلى وادي رم ثم إلى المدينة المنورة .
الزائر لمدين, والمتنقل بين سهولها وأوديتها لا بد أن يشعر بذلك الزخم التاريخي يلف أجوائها ..هناك ما يشعرك أن في المكان سحر وطاقة, تشعر فيها بالرهبة والخشوع.
زيارة بئر مدين الموجود في بطن الوادي,رحلة لابد أن تسيرها على الأقدام لتستطلع رهبة المكان ,فلا تزال بعض أشجار التين العتيقة واللوز موجودة , تحيطه البساتين المنسية والمهملة ألان, ووجود بقايا “جرميات” الكرمة(بقايا جذوع أشجار العنب الغليظة) العتيقة.التي تؤكد ما جاء في رحلة ترايسترام ان هذه المنطقة كانت مليئة ببساتين الكرمة التي كانت تغطي المنحدرات ..والمتمعن في هذه المناطق لابد أن يشاهد أثار السلاسل”السناسل” الحجرية التي بنيت لتدعم هذه .ولقد أكد ترايسترام أن هذه المنطقة كانت تزود الجيوش الرومانية بقرب النبيذ المعتق الذي مصدره هذه الحقول.. وان بواقي جذوع القرمة تؤشر أن المد الإسلامي قد افقد هذه الحقول أهميتها, وما بقي إلا ما يستغل كفاكهة فقط ,لتحريم الإسلام الخمر,لهذا قلت العناية بهذه الحقول على فترات تاريخية إسلامية متعاقبة,في تنقلاتي الكثيرة على الأقدام حول المنطقة المحيطة بمدين قيل لي, أن هناك معصرة للزيتون في منطقه قريبة من بئر مدين تسمى “الثغرة” تبعد عن منطقة البئر بحوالي 2كم..وعندما ذهبت إلى هناك وجدت حجر كبير مسطح أملس, مقعر من وسطه, وله قنوات على جانبه..لكن المنطقة خالية تماما من أشجار الزيتون القديمة ,والمعروفة في منطقة الشمال في اربد بالتحديد باسم الروميات ..الاعتقاد الأقرب أنها معصرة للعنب الذي كان يحفظ في بئر قريبه من الحجر يجري إليه العصير عبر قنوات فخاريه, ومما يؤكد اعتقاداتي .حقيقة أن الناس في السابق كانوا يحتفظون بغلال زيت الزيتون في أبار خاصة, ولا بد أنهم استخدموها أيضا, لتخزين عصير العنب وتخميره.
لا يزال هناك جدل واسع حول ما إذا كانت هي مدين التي وردت في القران الكريم” وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ”
فالبعض يعتقد انها موجودة في منطقة تبوك وهناك عدة أراء حول هذا الموضوع .ولقرب جامعة مؤتة من مدين –اقل من 2كم- قام مجموعة من أساتذة جامعة مؤتة / قسم الدراسات الإسلامية بزيارة المنطقة وأكدوا أنها “مدين” التي وردت في القران الكريم,وعلى اثر هذا الاهتمام قامت الحكومة ببناء جدار حول بئر الماء الذي لا يزال لغاية ألان يستقى منه .
قريتي حبيبتي “مدين” ألان, ضاحية هادئة وجميلة , تتبع لإدارة محلية تحت اسم بلدية “زيد بن الحارثة” تيمنا بالقائد العربي المسلم الذي استشهد بصحبة القادة المسلمين: عبدا لله بن رواحه وجعفر الطيار ,رضوان الله عليهم جميعا,الذين قادوا معركة مؤتة قبل أن يحمل الراية القائد خالد بن الوليد على ارض مؤتة الأبية.
لقد التحمت “مدين” مع القرى المجاورة, من الشمال مع المشيرفة “المشارف” التي اشتهرت بصناعة السيوف المشرفية عبر التاريخ ومع” محنة “العدنانية الآن غربا ,ومن مرود إلى الجنوب حتى البوابة الشمالية لجامعة مؤتة ,المعلم الحضاري والأكاديمي المقام على سهول مؤتة وقرب المشهد الذي شهد المعركة الخالدة في التاريخ العربي والإسلامي.
“مدين” الحديثة الآن, بيوتها مبنية من الحجر الأبيض وحولها بساتين الزيتون والمشمش وحقول القمح.أهلها طيبون كرماء,يرتاح في كنفهم الغرباء وعابري السبيل, وطالبي العلم من مختلف البلاد العربية والإسلامية الذين يرتادون جامعة مؤتة لطلب العلم في كافة التخصصات العلمية والأدبية ,أما سكانها فهم عشيرة البيايضة, التي تعود أصولهم وأشقائهم كل من ألمجالي والمعايطة ,إلى عائلة التميمي والى شديد التميمي بالذات الذي أنجب ثلاثة أولاد:كان بيوض بن شديد التميمي هو جد عشيرة البيايضة, وينتسب شديد التميمي إلى مزروع بن رفيع بن حميد بن حمّاد التميمي من”" آل حمّاد”" الذين يعودون بنسبهم إلى العنبر بن عمرو بن تميم
ويعود أجدادهم إلى روضة سدير بنجد التي سكنها بنو تميم منذ قديم الزمان وتحديدا بني العنبر,
عشيرة البيايضة في الوقت الحاضر سكان “مدين“,يتجاوزون ال4 آلاف نسمة ,يعملون في كافة المهن ويشاركون في بناء وطننا الغالي ,الأردن, يجتمع الرجال على مدار أوقات الصلاة في جامعهم الرابض على مفترق الطريق المؤدي إلى المشيرفة من جهة والى مرود وجامعة مؤتة من الجهة الاخرى.
قريتي حبيبتي” مدين” امتداد جذوري ,ومكان ولادة والدي وأقربائي ,وواجهتي الوطنية الخاصة التي تميزني بثقافتي ,وبلون بشرتي, ومعاني لهجتي الكركية, التي احتفظ بها لتميزني وتجعلني كماسة تلمع أينما تواجدت,فوق خريطة العالم , تسطع انعكاساتها على كياني ووجودي , وتنثر الثقة والأصالة, حولي ككيان إنساني له مرجعيته, في إحداثيات التاريخ والمكان.. أنها قريتي التي أحب ومستقري الأخير والأبدي,.
رد مع اقتباس
المفضلات