ثمة من يؤمن وربما كان على صواب أن اختراع الخلوي كان أحد الاختراعات الثورية في التاريخ الانساني بالنظر إلى قدرة هذا الجهاز على احداث تغييرات جوهرية في طرائق عيشنا. ففي الاقتصاد كما في السياسة وكما في الاجتماع الانساني يبدو تأثير الخلوي ماثلا وهائلا. وتبدو قدرة هذا الجهاز الصغير على خلق تحولات في حياة الافراد والجماعة وفي طبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة التي ينتمي اليها وفي طرائق الاتصال والتواصل الانسانيين غير محدودة.
تدخل إحدى الدوائر الحكومية من أجل أنجاز أمر ما، تنظر إلى الناس الجالسين في انتظار انجاز معاملاتهم. تكتشف أن ثمة منظرا يتكرر طوال الوقت؛ إنه منظر لفئة من الشباب وقد تركز نظرهم وانشغلت معظم حواسهم في جهاز الخلوي الخاص بهم والذي يعبثون باصابعهم فيه في حين تحدق عيونهم بشاشته.
يتكرر المنظر حين تقف بسيارتك أمام الاشارة الضوئية، تتلفت يمينا أو يسرة لتفاجأ ببعض السائقين وقد انشغل اثناء انتظار الاشارة الخضراء بجهاز الخلوي الخاص به. ويكتمل المشهد حين تلمح في مرآة سيارتك احد السائقين وهو يحرك شفتيه وتعتقد انه يتحدث إلى أحد ما بجانبه وحين تمعن النظر تفاجأ ان لا أحد في السيارة سواه وانه كان يتحدث من سيارته إلى شخص ما في مكان بعيد عبر سماعات جهاز الخلوي الخاص به.
ولا يختلف المشهد كثيرا في المنزل الخاص بنا. نتوسل أطفالنا أن يتركوا غرفهم الخاصة حيث يشاهدون برنامجهم التلفزيوني المفضل أو يمارسون احدى الالعاب الالكترونية، نتوسلهم كي يجلسوا معنا بعض الوقت لنتبادل معهم بعض الدفء الذي يتيحه اللقاء العائلي. يأتي الطفل بعد تكرار النداء عليه ويجلس معنا ثم ما تلبث يده أن تستل جهاز الخلوي الخاص بأحد الابوين ليمعن فكره وعقله في جهاز الخلوي وليعزل ذاته وحواسه عن كل هذا الجو الأسري.
وفي الحرم الجامعي، كما في الشارع وكما في الساحات العامة. يتكرر المشهد لاشخاص تتركز حواسهم في جهاز الخلوي الخاص بهم بحيث لا يبدون كجزء من المكان ومن الزمان الذين يتشاركونه فيزيقيا في تلك اللحظة مع الاخرين من حولهم، بل يبدون كجزء من مشهد يقبع خارج الزمان والمكان الذي يفترض أن يوجدوا فيه في تلك اللحظة.
يعمل الخلوي كقوة طاغية في إخراج الفرد من السياق الذي يمكن أن يوجد فيه Decontextualization force . إن الطفل أو الشاب الذي يستجمع جل حواسه وقدراته العقلية أثناء استخدامه الخلوي يبدو منفصلا عن الجماعة التي صدف أن وجد وسطها اثناء استخدامه الخليوي. فحواسه لا تدرك ما يجري في ذلك المكان وفي تلك اللحظة من الزمن. أن الخلوي يعمل وببساطة على قذفنا خارج الزمان وخارج المكان. أنه وببساطة أحدى القوى التي تعمل على جعلنا خارج السياق المكاني والزماني وحتى الانساني الذي ينبغي أن نعيش فيه.
وباشتمالها على ذاكرة متطورة ذات قدرات تخزينية هائلة أصبح الخلوي الامتداد التكنولوجي لذاكرتنا التي كانت لالاف السنين ذاكرة انسانية محضة. ففي الخلوي نحتفظ بارقام هواتف من نتواصل معهم، وفيه نحتفظ بأهم النكات التي تروقنا، وفيه نجدول مواعيدنا وارتباطاتنا القادمة. وبذاكرة الكترونية تقوم مقام ذاكرتنا الانسانية، اصبح الخلوي بمثابة صندوق اسرارنا الذي في نحتفظ فيه بأكثر الاسرار حميمية. لقد اصبح الخلوي بمعنى ما هو ذاتنا الفردية. وأصبح الوسيلة الأكثر نجاعة في انتاج وإعادة انتاج فرديتنا صباح مساء.
لقد أصبح الخلوي ومن بين كل ما نملك من أشياء خاصة، أصبح الملكية الأكثر تعبيرا عن خصوصيتنا. فالسيارة خاصتنا، والمنزل خاصتنا، والكمبيوتر خاصتنا. وهي وان كانت ملكيات خاصة إلا أننا ربما نقبل أن يشاركنا أياها الاخرون. ولكن من بين هذه الملكيات جميعا، فقط جهاز الخلوي خاصتنا هو الذي لا نقبل أن يستعمله أخرون غيرنا. أنه رديف الخصوصية والحميمية الشخصية أيضا.
وربما تكمن هنا أهم التناقضات في هذا الاختراع الثوري. ففي الوقت الذي يمثل هذا الجهاز بالنسبة لنا مفاهيم الخصوصية والفردية وربما الانانية، الا أنه يحمل أيضا القدرة الثورية على التواصل والاتصال مع الاخرين وعلى بث أي مادة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية بزمن قصير إلى عدد غير محدود من البشر. فالخلوي يمثل في الآن نفسه مفاهيم العمومية والانتشار والاتصال الجماهيري تماما كما يحمل في داخله مفاهيم الخصوصية والفردية بل والانانية.
عمل الخلوي على تغيير طرائق اتصالنا بالاخرين وتواصلنا معهم. فالى وقت قريب كان كثير من المجتمعات الانسانية يعتمد على الاتصال الوجاهي وعلى ما يسمى باتصال الوجه للوجه Face to face relationship أو الاتصال الشخصي الذي يتسم بحميمية وديناميكية أكبر. وجاء الخلوي ليحد كثيرا من طرائق الاتصال الوجاهية والمباشرة والشخصية. وأصبح تواصلنا مع الاخرين أقل وجاهية واقل مباشرة. وبالتالي ربما يكون الاتصال عبر الخلوي قد أفقدنا دفق المشاعر الانسانية التي يتيحها الاتصال المباشر بين الناس حيث تتم عملية الاتصال من خلال الكلمات واللغة إضافة غلى إيماءات العينين والشفتين واليدين والرأس. وبكلمات أخرى فقد غير الخلوي كثيرا من أشكال الاتصال الانساني بحيث اصبح الاتصال اقل انسانية وعاطفية وحميمية.
وعلى صعيد الجماعة الواسع، عمل انتشار الخلوي على خلق وتعميق ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ الانساني. ويتعلق الامر هنا بما يسمى بظاهرة ''الانقسام الرقمي'' داخل المجتمع. لقد انقسم المجتمع بصورة ربما تكون خطية. فهناك من يملكون الخلوي وهناك من لا يملكون، وهناك من يملكون خليويا بسيطا ويستيطعون تشغيله بصعوبة في حين يمتلك آخرون القدرة على تشغيل اكثر الاجهزة الخليوية تعقيدا، ويبرعون في الافادة من فوائده المختلفة.. لم يعد الحديث هنا عن انقسام المجتمع طبقيا أو عمريا أو عرقيا بل أصبح الانقسام يقوم على أساس من يملك هذا الجهاز الثوري ويجيد الافادة من مزاياه على صعيد ثورة المعلومات وانتشارها ومن لا يملكه وهو ما يجعله يشعر ببعض التهميش والاقصاء الاجتماعيين.
ويتكرس الانقسام الذي يحدثه الخلوي من خلال التمايز والتفاوتات التي تنتج عن امتلاك الافراد لانواع مختلفة ومتباينة من الاجهزة الخليوية.
فكما السيارة وربطة العنق ونوع العطر الذي نشتريه والذي نتوخى من شرائه تأكيد موقعنا الاجتماعي وربما الطبقي. أصبح جهاز الخلوي أحد العناصر التي نستعملها في تأكيد تمايزنا عن الاخرين من خلال إصرارنا على حمل الجهاز الذي نصر على أن يكون الاجمل والأغلى والاكثر أناقة والاكثر تميزا. لقد أصبح كل منا يتوخى في حهاز الخلوي خاصته أن يعكس تميز شخصه ومذاقه وموقعه الاجتماعي والاقتصادي. و الخلوي بهذا المعنى أصبح أحد وسائل انتاج هويتنا الاجتماعية والطبقية.
أما على صعيد علاقة الفرد بالجماعة، فتبدو تأثيرات الخلوي ماكرة وربما خبيثة. صحيح أن الخلوي منحنا كثيرا من الخصوصية والحميمية في علاقاتنا وفي اتصالنا بالاخرين حيث يمكن الاتصال بالاخرين والتواصل معهم إنطلاقا من كل مكان بل وحتى انطلاقا من أسرتنا التي نأوي اليها ليلا بحثا عن الراحة والنوم. ولكن الخلوي جعل من كل فرد فينا إكثر مرئية وأكثر انضباطا في سلوكياته إذ يتيح الخلوي للمجتمع الكبير وللمؤسساته السلطوية المختلفة أن يعرف مكان كل واحد فينا وأن يعرف ما الذي يفعله وما الذي يتحدث فيه. و الخلوي بهذا المعنى، يشكل أفضل أداة في الضبط والسيطرة الاجتماعيين وفي الرقابة الاجتماعية الدائمة لسلوكات كل فرد.
وعلى نفس الصعيد، وبسبب قدرة الخلوي على إختراق أدق الفضاءات الاجتماعية والسياسية، فقد يعمل الخلوي على بث نوازع الشك والتوجس بالاخرين أثناء اللقاءات والتجمعات. وهو يدفع البعض للحذر في أحاديثهم.
ففي المجتمعات التي تكثر فيها النميمة وحديث الغيبة كثيرا ما يدفع وجود جهاز الخلوي البعض للحذر في الحديث خوفا من قيام أحدهم بتسجيل مضمون الحديث واستخدامه أداة لايقاع االأذى بهم فيما بعد. وبهذا المعنى فأن الخلوي يملك قدرة هائلة على أختراق خصوصيات الافراد والجماعات.
ويمكن الافتراض أن الخلوي يلعب دورا كبيرا على صعيد العلاقات بين الجنسين. ففي مجتمع تسود فيه حواجز تقليدية على مستوى الاتصال بين الجنسين وحيث شكل الخجل حاجزا تقليديا للاتصال المباشر والوجاهي بين الجنسين يعمل الخلوي على كسركثير من الحواجز النفسية التي فصلت بين الجنسين. ويكثر الكلام هنا وهناك حول علاقة بين طرفين لم يكن لتنشأ دون وجود الخليوي.
كما يمكن القول أن من أبرز التغيرات التي أحدثها الخلوي في حياتنا هي تلك المتعلقة بنمط المهارات التي نمتلكها. ففي الماضي كان عدد الناس الذي يجيدون مهارة الطباعة واستخدام اصابعهم في الكتابة على الالة الكتابة أو الكمبيوتر يتسم بالمحدودية بعد ان كانت الطباعة بمثابة مهارة يتطلب تعلمها الانتساب إلى دورات متخصصة ومكلفة. وبالتالي كانت الطباعة حصرا على عدد محدود من الناس. ولكن وبفضل انتشار الخلوي أضحت الطباعة مهارة جماهيرية ذات انتشار واسع. إذ إن معظم الناس اصبحوا يجيدون الطباعة بفضل خدمة الرسائل النصية التي تتيحها جميع أنواع الخليوي.
لقد ترتب على الاستخدام الواسع والجماهيري للرسائل النصية بعض النتائج على الصعيد اللغوي. ففي أوروبا كما في العالم العربي، شجع الاستخدام الواسع للرسائل النصية عبر الخلوي على تطوير مستوى جديد من اللغة وعلى تطوير شيفرات أو كودات لغوية جديدة. فكي تكون الرسائل قصيرة وبالتالي أقل تكلفة وأسرع كتابة كان ينبغي استخدام مفردات وتراكيب وجمل لغوية مختصرة دون التقيد بقواعد الاملاء والنحو والقواعد التقليدية.
وبكلمات أخرى، فبعد أن عمل الخلوي على تغيير أنماط الاتصال بين الفرد والجماعة فانه عمل أيضا على تطوير اللغة نفسها التي يتواصل الافراد مع بعضهم من خلالها.
رد مع اقتباس
المفضلات