تشير الإحصاءات إلى أن عدد طلبة المدارس في الأردن يقارب المليون وستمائة ألف طالب وطالبة . وهذا الرقم - الكبير نسبياً - يعني أن أكثر من ربع سكان المملكة هم من طلبة المدارس . فلا عجب إذن أن نرى ظلال العطلة المدرسية الصيفية وهي تمتد ؛ لتتغلغل بملامحها ومعالمها وآثارها إلى معظم البيوت، وتلوّنُ الجوَّ السائد في أكثر الأُسر، بل تمتد بظلالها تلك إلى الشوارع والأسواق، ومختلف المرافق الخاصة والعامة .
وتبدو أهم ملامح تلك العطلة واضحة من خلال الحجم الضخم من (الفراغ) الذي يعيشه الطلبة في أثنائها، ويعاني من آثاره أهلوهُم، دون أن ينجو من تلك الآثار آخرون من الجيران وسكان الحي وغيرهم من أفراد المجتمع . وأعني بالفراغ هنا : تلك الأوقات المتاحة للطالب في إجازته الصيفية، والتي لا يحكمها التزام بدوام محدد، أو بواجبات مدرسية مفروضة .
وللفراغ بهذا المعنى سلبياته وإيجابياته، فهو إيجابي من حيث كونه (فرصة) تتيح مجالاً للعب (اللعب كحاجة نفسية إنسانية، لها ضروراتها وفوائدها) .
كما تتيح مجالاً لممارسة النشاطات اللامنهجية التي تنمّي المواهب، وتبني المهارات، وتعزز القدرات، وتطلق الإبداع، وتستغل الطاقات والأوقات فيما هو مُجْدٍ ونافع . ولا سيّما أن مواجهة المستقبل، في ظل سرعة التغيرات، وتأثيرات العولمة، والتطور التكنولوجي، وزيادة حدة التنافس، وتزايد ضغوط العمل، تحتاج وفقاً لما يقوله الراسخون في علم النفس إلى درجة عالية من تنمية الاقتدار والتمكّن لدى الفرد، وتعزيز نقاط قوته ومتانة تماسكه الداخلي، لكي يستطيع مواجهة كل هذه التبدلات والضغوط المتوقعة .
أما سلبيات ذلك الفراغ، فإنها عَصيّةٌ على الحصر، فالفراغ يعلُّم التعايش مع الملل، والتلذذ بالكسل، والاعتياد على طول السُبات والتمطّي والتثاؤب، والاستمتاع بلغو الحديث، والتقاط التفاهات والصغائر والتعلّق بها كاهتمامات وقيم . ناهيك عما يؤدي إليه من اختلاقِ التنازع والتشاحن بلا علّة أو طائل، والتسبب بإزعاج أفراد الأسرة وأهل الجوار، والبحث عن أنماط جديدة من الاستهلاك، واقتباس عادات وممارسات سيئة . هذا ما لم يؤدِ (أي الفراغ) إلى الجنوح أو الإدمان، أو غير ذلك من (الكبائر) .
ويبدو أن معظم دول العالم، المتقدمة والنامية، تمنح طلبة مدارسها إجازة سنوية، تتراوح غالباً في مدتها ما بين الشهرين والثلاثة شهور . غير أن الإمكانات تتفاوت بين تلك الدول من حيث مدى قدرتها على توفير مرافق ومجالات لهؤلاء الطلبة لممارسة ألعابهم، والتفاعل مع هواياتهم الرياضية والفنية والثقافية . كما أن لدخول الفئات المختلفة من المجتمع أثر في مدى قدرة الأهل على إتاحة سبل النشاطات لأبنائهم، فالسفر والسياحة، والاشتراك في النوادي الخاصة، وارتياد بعض المحلات والأماكن، وتعلُّم بعض الهوايات الفنية أو ممارستها، ليس متاحاً غالباً في مجتمعنا لغير أصحاب الدخول فوق المتوسطة، وبتفاوت ملحوظ .
ولئن كان عدم كفاية ما هو متاح ومتوافر من الملاعب والحدائق العامة، ووسائل ممارسة الهوايات وتنمية المواهب، سبباً مهماً من أسباب تمدّد أوقات الفراغ في العطلة الصيفية، وبالتالي ظهور الآثار السلبية لهذا الفراغ . فإن هذا الجانب بمفرده، لا يشكل السبب الوحيد الذي يتيح للفراغ أن يستشري بآثاره وعواقبه، ويتفاعل مع النفوس ؛ ليترجِمَ نتائجه الملموسة إلى واقع على مسرح الحياة.
نعم، فثمة سبب لا يقل أهمية عن السبب الواقعي المحسوس المشار إليه فيما تقدم، وهو يُفاقم من تأثيرات الفراغ في العطلة، ويزيد من سلبياته، ويتمثل هذا السبب في ثقافة استغلال أوقات الفراغ. وهي ثقافة تنبع في أساسها من طبيعة نظرة المجتمع الى الوقت، والى طاقات الأطفال والشباب، والى قيمة اللعب وممارسة الهوايات والبحث عن المواهب وتنميتها .
ولا أدري إن كان يجوز لنا أن نلوم أبناءنا من الطلبة، على سوء استغلال عدد غير قليل منهم للفرص التي تتيحها لهم العطلة الصيفية، إذا كنا نحن الكبار (بأعمارنا) كثيراً ما نمارس قتل الوقت بدل استثماره، وإهدار الطاقات عِوَضاً عن تنميتها . ونمضي ساعات وأيام طويلة في القيل والقال، ولا نتقن فنون التسلية المجدية، أو ممارسة الهوايات الفنية والنشاطات الفكرية والثقافية والخيرية . ولا نجيد إدارة وقت الفراغ والإجازة، لأن إدارته أصعب من إدارة وقت العمل أو وقت الدراسة، فوقت العمل محدد بتعليمات، ومحكوم بواجبات، ومنظم بأعراف، ومحاط بالجزاءات، أما وقت الفراغ فهو طليق تحتاج إدارته إلى إرادة وفطنة ومتابعة .
إذن، فالمسألة ليست مجرد توفير المجالات والمرافق التي تتيح اللعب، أو النشاطات التي تنمّي شخصية الأطفال والفتيان والفتيات وحسب، وإنما هي كذلك مسألة ثقافة واهتمامات وقيم، فإذا رسخت لدى الطلبة مثلاً قيمة العلم والإبداع والفن والفكر والجمال والأدب والعمل التطوعي، وقيمة الصحة النفسية والجسدية وتطوير الذات، أمكننا التغلب - إلى حد كبير - على ضيق ذات اليد وتواضع الإمكانات . أما حين تغيب مثل هذه القيم، فسوف يفعل الفراغ فعله، رغم أي إمكانات أو فرص متاحة .
رد مع اقتباس
المفضلات