احباب الاردن التعليمي

النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: جواهر من اخلاق العلماء وعلمهم وتواضعهم

  1. #1
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Tue Feb 2009
    المشاركات
    407
    معدل تقييم المستوى
    16

    جواهر من اخلاق العلماء وعلمهم وتواضعهم

    خرج ابن مسعود من المسـجد، فخرج تلاميـذه وراءه - روى ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد - فقال: [[عودوا إلى أماكنكم، والله لو علمتم ما علي من الذنوب لحثوتم التراب على رأسي ]] هذا ابن مسعود صاحب قيام الليل، الصحابي الشهير، الذي قال بعض التلاميذ فيه: [[نمت عند ابن مسعود فتركني حتى نمت، وظن أني نائم، ثم قام يتلو القرآن كأنه نحلة حتى الفجر ]] الذي جمع القرآن، يقول: [[عودوا والله لو علمتم ما علي من الذنوب لحثوتم على رأسي بالتراب ]].

    يقول علامة الأندلس ، يناجي الله في الليل ببيتين وهو يبيكي:

    يا من سترتَ مثالبي ومعايبي وحلمت عن سقطي وعن طغيان


    والله لو علموا قبيحَ سريرتي لأبى السلامَ عليَّ مَن يلقاني


    نحن في ستر الله، لماذا يتكبر العبد؟ ولماذا لا يعود إلى تاريخه المظلم؟! ولماذا لا يتذكر سيئاته وأفعاله مع الله الواحد الأحد في مكان لا يراه إلا الله؟! تصور أن الله كشف معاصيك، وفواحشك، وأخطاءك على الناس، والله لا يتحملون لك، ولا يسلمون عليك، ولا يزورونك، ولا يرحبون بك، ولا يستقبلونك، فكيف برب العباد الذي يرى الخطأ منك صباح مساء، ويغفر، ويعفو، ويستر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال أبو العتاهية :

    إلهي لا تعذِّبني فإنِّي مُقِرٌّ بالذي قد كان مِنِّي


    يَظُنُّ الناسُ بِي خيراً وإنِّي لَشَرُّ الناس إن لم تَعْفُ عَنِّي


    فكمْ مِن زلَّة لي في البرايا وأنت عليَّ ذو فضل وَمَنِّ


    إلى آخر ما قال.

    إذاً: التواضعُ سِيَمُ أهلِ العلم.






    كراهيتهم للمدح



    دخل داخلٌ على شيخ الإسلام ابن تيمية فمدحه وقال: "يا ابن تيمية ! أنت العالم البحر" فغضب ابن تيمية ، واحمرَّ وجهُه وقال:

    أنا المُكَدِّي وابنُ المُكَدِّي وهكذا كان أبي وجدِّي


    يقول: أنا فقير، وأبي فقير، وجدي فقير، وله قصيدة اسمها الفقرية، يشكو فقره على الله، ويقول رحمه الله:

    أنا الفقيرُ إلى رب السماواتِ أنا الْمُسَيْكِيْنُ في مجموعِ حالاتي


    أوحى الله إلى موسى عليه السلام قال: يا موسى! إذا ذكرتني فاذكرني وأعضاؤك تنتفض من خشيتي.

    وفي الحديث الصحيح: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه }.

    كلما يتكبر العبد يقول الله: {اخسأ، فلن تعدو قدرك } وكلما تواضع قال الله: {انهض أنعشك الله } هذا في حديث وأثر يُرْوَى.

    إذا عُلِمَ ذلك: فإن مما ميَّزَ علماء أهل السنة : الخشية والتواضع لله عزَّ وجلَّ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].







    إبراهيم بن أدهم توبته وتواضعه



    إبراهيم بن أدهم زاهدٌ، عابدٌ، قال بعض أهل العلم: " كان أميراً من أمراء خراسان ، وكان عنده خيل، وجمال، ودنيا كثيرة، نزل إلى السوق - وبعض الناس طيب على الفطرة حتى ولو كان فيه معاصٍ- فوجد ورقة في السوق مرمية، مكتوب عليها: (الله) اسم الجلالة.

    لا إله إلا الله! انظر إلحاد العالَم اليوم! ماذا فعل الملحدون؟! كتبوها على بعض الأحذية، وقد أشرنا إليها في بعض الدروس والمحاضرات، عليهم لعنة الله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5].

    -وهنا استطراد-: وقد سمعت من الشيخ كشك قبل أيام خطبة جيدة في هذا، أحضر ورقة نخل معه في المسجد، مكتوب عليها بالخط الذي خطته قدرة الواحد الأحد: (الله) النخلة كتبت على نفسها في وجهها: (الله) وفي قفاها: (الله) بالخط الكوفي الجميل، وما خطه إلا الواحد الأحد، وربما تكون من الآيات، وهي من آيات الواحد الأحد.

    انظر لتلك الشجرة ذات الغصون الناضره


    كيف نمت من حبة وكيف صارت شجره


    من ذا الذي قومها حتى استقامت شجره


    ذاك هو الله الذي قدرته مقتدره


    ذو قدرة باهرةٍ وحكمة منتشره
    تحمل المشاق في طلب العلم

    أما تحمل علمائنا للمشاق: فأمر عجيب، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ذكر موسى في القرآن، وأخبر أنه ركب البحر في طلب العلم، وبوَّب البخاري في كتاب العلم: (باب ركوب البحر في طلب العلم) وموسى عليه السلام قد وقف خطيباً في بني إسرائيل، فقالوا له: أتعلمُ أعلمَ منك في الأرض؟ قال: ما أعلمُ أعلمَ مني، فلامه الله وعاتبه على أنه ما ردَّ العلم إلى الله، فقال الله: بل عبدنا بـمجمع البحرين الخضر أعلمُ منك.

    فسافر إليه وطلب منه أن يعلمه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق، فلما انتهت القصة وقال الخضر: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] قال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله موسى، ودِدْتُ أنه صبر حتى يُقصَّ علينا مِن نبئهما } يقول أهل العلم - والحديث صحيح -: {لما ركب موسى والخضر عليهما السلام في القارب، وأصبحوا في البحر، وإذا بعصفور ينقر من البحر - يشرب من البحر - فقال الخضر: يا موسى! ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور من هذا البحر }.

    ذكر البخاري : سافر جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه شهراً كاملاً في طلب حديث واحد من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس في مصر ، في العريش ، فخرج عبد الله بن أنيس ورأى صاحبه فعانقه، فقال له: [[ادخل واجلس، قال: لا. إنما خرجت لوجه الله، ولا أريد أن أفسد هجرتي، أريد الحديث الذي سمعتَه من الرسول عليه الصلاة والسلام ]] فأخذ الحديث وهو واقف، ثم ركب ناقته وانصرف.

    أما سعيد بن المسيب فيقول عن نفسه: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد كنت أسافر الثلاثة الأيام بلياليهن في طلب حديث واحد ]] ولذلك بارك الله في علمهم وجهدهم، رغم أنه لم يكن عندهم ما عندنا من الوسائل الحديثة: كالسيارات، والهواتف، والمطاعم الشهية، والمراكب الوطية، والملابس الهنيَّة المَرِيَّة، ولكن قلَّ التحصيل، ونشكو حالنا إلى الله الواحد الأحد.

    يذكرون عن القفال - أحد علماء الشافعية - أنه سافر لطلب العلم، وكان عمره أربعين سنة، فلما مشى في الطريق، قال له الشيطان: "كيف تطلب العلم في الأربعين؟ - والشيطان يوسوس - فرجع من الطريق، ولما رجع مرَّ برجل يعمل على سانية، والساقية وكان الرجل يُخرج الماء من البئر، وقد أثر الرشا والحبل في الصخر، فقال القفال بعدما اعتبر بتأثير الحبل في الصخر مع المداومة:

    اطلب ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا


    أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا


    قيل لـعامر الشعبي وهو عالم جليل: " بم طلبتَ العلم؟ قال: بصبر كصبر الجمال، وببكور كبكور الغراب "، يبكر في الصباح مثل بكور الغراب، من بعد صلاة الفجر يطلب العلم، ويصبر كصبر الجمال في طلبه حتى حصله.

    كم سافر الإمام أحمد ؟ دخل أكثر من ثلاثين إقليماً في طلب الحديث، مشياً على رجليه، معه بُقْشَة فيها خُبْزُه من شعير وملح، دخل خراسان ، ومدنها: سمرقند ، وبخارى ، وتركستان ، وطشقند ، والسند ، وأطراف الهند ، وأطراف أفغانستان -على ما يُنقَل في سيرته- ودخل مصر والعراق ، والحجاز ، وذهب إلى الشام ، ثم دخل اليمن ، وطاف الأقاليم، حتى قال بعضهم: " لو جُمِعَت سَيرته، أو المسافات التي سارها لطوقت الدنيا ".

    كان يمشي ليل نهار، ذهب إلى عبد الرزاق في صنعاء يطلب العلم منه، فوفقه الله بـعبد الرزاق وهو يطوف عند البيت، فقال يحيى بن معين : " يا أحمد ! هيا بنا، هذا عبد الرزاق قد حضر نأخذ العلم منه ونعود، قال أحمد : أنا خرجت لله، وأريد أن يعود عبد الرزاق إلى صنعاء ؛ لأذهب إليه ولتكون سفرتي في سبيل الله، فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء ، سافر الإمام أحمد إليه، وانتهى ما لدى الإمام أحمد من شرابه وطعامه حتى قال: عملت حصَّاداً في بعض الأيام لنفقة بطني " عمل حصاداً يحصد الزرع لما انتهت نفقته في طلب الحديث، وعاد بحديث كثير، وترك لنا: المسند ، الذي لو كُتِب بالدموع أو بالدماء ما أنصف.



    الإنفاق في طلب العلم



    أما الشافعي : فقالوا: " أنفق ثلاثين ألف دينار " وهي ميزانية هائلة، كان كلما أتاه عطاءٌ أنفقه في طلب العلم، سكن مكة مع أمه، وكانت فقيرة، وبيتهم كان ضيقاً، فكان يذهب يطلب العلم، ولا يجد أوراقاً؛ لأنها غالية الثمن -ونحن عندنا مطابع ودفاتر ووسائل وترجمة، لكن: أين من يُحَصِّل؟! - فكان يأخذ اللخاف، والرقاع، والعظام، والصخور الملساء، ويكتب فيها العلم بالفحم، حتى ضيَّق على أمه السكنى، وقالت: " يا بني! أنخرج ونترك البيت لكتبك؟ " - أي: أصبح الدار مكتبة، وأصبح هو وأمه في طرف البيت.

    ثم ذهب إلى البادية، فحفظ أشعار ثلاثين شاعراً من شعراء هذيل، ثم عاد، فقال له رجل من أهل مكة : " إني أراك نابها،ً فصيحاً، ذكياً، فاذهب إلى عالم المدينة مالك بن أنس ، فاطلب منه العلم "، فذهب.

    قال الشافعي : " حفظتُ الموطأ في تسع ليالٍ "، لا إله إلا الله! الموطأ مجلد كامل تعادل آثاره، وأحاديثه، ومقطوعاته، ومرسلاته، وموقوفاته ثلاثة آلاف حديث حفظه في تسع ليالٍ عن ظهر قلب، فلما جلس عند الإمام مالك ، كان يقرأ عليه، فقال له: " إني أرى عليك نوراً، فلا تفسده بالمعصية ".







    الصبر والذل في طلب العلم



    أما عطاء بن أبي رباح فكان عبداًَ -وكلنا عبيدٌ لله، والإسلام لا يعترف بالدماء، ولا بالأنساب، ولا بالقبائل، ولا بالأسر؛ ولكن ميزانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] - لامرأة من مكة ، فأصيب بمرض الشلل، وأصيب بمرض في جسمه، فتركته، فمكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم، حتى بَرَّز في العلوم، يقول: [[ما رفعت فراشي من الحرم مدة ثلاثين سنة ]] ليلاً ونهاراً وهو يطلب العلم؛ حتى أصبح عالم المسلمين.

    أما ابن عباس : وكان الأَولى أن يُقدَّم في هذا الباب، ولكننا نقدمه مهما تأخر لفظاً فإنه متقدم رتبة.

    ابن عباس رضي الله عنهما قال -واسمَع لهذه العبارة وقد صحَّت عنه--: [[ذَلَلْتُ طالِباً فَعَزَزْتُ مطلوباً ]] ويقولون:

    العلمُ حربٌ للفتى المتَعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي


    فمن تكبر لا ينال العلم.

    وعند البخاري موقوفاً على مجاهد : [[لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر ]].

    فلا إله إلا الله! ما أحسـن طلاب العلـم إذا تواضعوا في طلبه! قالوا لـابن عباس : كيف حصلت العلم؟ قال: [[كنت أخرج في الظهيرة في شدة الحر، فأذهب إلى بيوت الأنصار، فأجد الأنصاري نائماً، فلا أطرق عليه بيته، فأتوسد بُرْدي عند باب بيته، فتلفحني الريح بالتراب، فيستيقظ الأنصاري، ويقول: يا بن عم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ألا أيقظتني أُدْخِلك؟ فأقول: أخاف أن أزعجك ]] فأصبح عالم الأمة رضي الله عنه وأرضاه، ولنا عودة لهذا العنصر.




















































    تبارك الله رب العالمين، النخلة تسبح بحمد الباري، لكن الشاهد هنا: أن إبراهيم بن أدهم وجد الورقة مكتوب فيها: (الله). قال: " سبحان الله! يدوسون اسم الحبيب؟! " فأخذ الورقة، وذهب إلى بيته، وأخذ طيباً بدينار، ثم غسل الورقة، وطيبها، ورفعها، فنام تلك الليلة قَرِيْرَ العَين قال: " فسمع قائلاًَ يقول: يا من رفع اسم الله! ليرفعن الله اسمك "، وهذا لا معارضة فيه مع النصوص فالقصة توافق النصوص، ولا تعارضها، فرفع الله اسمه، وتاب، وأصبح زاهداً، عابداً من الصالحين.

    تواضعه يظهر في قصص منها: أنهم قالوا: " خرج مرة من المرات - وهو عابد - فمر تحت بيت من البيوت، فخرجت امرأة برماد في صحن فرمته من على البيت، وما عَلِمَتْ أن إبراهيم بن أدهم أسفل، فتلطخ بالرماد، فاجتمع أهل الحي وقالوا لها: حسيبنا الله هذا إبراهيم بن أدهم ، فأخذ يقول: " لا عليكم، لا عليكم، إذا صُولِحتُ على الرماد فيكفيني، إني أخاف أن أدخل ناراً تلظى "، يقول: إذا كانت المسألة مسألة رماد فالأمر سهل، لكني أخاف من جمر في الآخرة، حتى يذكرون العبارة عنه، يقول: " إن من استحق النار، ثم صُولِحَ على الرماد لهو رابح "، يقول: من نازله الله إلى أن أعطاه الرماد بدون جمر، وبدون نار، فحالته طيبة إن شاء الله.



    تواضعهم لبعضهم ولمن دونهم



    أما الشافعي فكان في الناس أكثرهم تواضعاً وحلماً وأناةً، كان يزور الإمام أحمد في البيت وقد كان أصغر منه سناً، ويطلب منه العلم، ويستفيد منه، فقال تلاميذ الشافعي : " تزور أحمد ؟! "؛ لأن بعض الناس اليوم لا يزور إلا من هو أكبر منه، أو أعلم منه، حتى يقول: أنا أزور فلاناً! لو زرتُه نقَّص من قدري! أنا لا أزور إلا أصحاب الوجاهات، وهذه هي زيارات الرياء والسمعة، كان طلاب الشافعي يقولون له: " كيف تزور أحمد وهو دونك "؟ قال:

    قالوا يزورُك أحمد وتزورُه قلتُ: الفضائلُ لا تغادرُ منـزلَه


    إن زارنِي فلِفَضْلِهِ أو زُرتُهُ فَلِفَضْلِهِ فالفضل في الحالَين لَه


    ولذلك كان أحمد يدعو له في السحر، ويقول لـابن الشافعي : " يا فلان! أبوك من السبعة الذين أدعو لهم في السجود وقت السحر "، فهؤلاء طلبوا العلم لله، فرزقهم الله علماً.

    يقول الشافعي : " يا ليتني لا أُذكر في الناس، يا ليت اسمي لا يُعرف، يا ليتهم يستفيدون من علمي وأنا في شِعب من شِعاب مكة ".

    وكان سفيان الثوري في التواضع مضرباً عجيباً في المثل، كان يلبس الصوف من تحت ملابسه، ويجلس مع الفقراء، ويقول: " مسكين يجلس مع المساكين ".

    مرَّ الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام بفقراء، فنـزل من على فرسه، وربط الفرس، وجلس معهم، قالوا: [[ما لك؟ قال: لعل الله أن يرحمني بمجلسي معكم ]] غفر الله ذنوبهم.

    كان زين العابدين إذا نام الناس وهجعوا وسكنوا وأظلم الليل عليهم، وبقي رب الناس يتنـزل في الثلث الأخير، فيقول: {هل من داعٍ؛ فأستجيب له؟ هل من مستغفر؛ فأغفر له؟ هل من سائل؛ فأعطيه؟ } يقوم على التمر، والزبيب، والقمح، فيحمله على أكتافه، وينشره في بيوت المساكين، فإذا أتت صلاة الصبح؛ ذهب إلى المسجد، والناس لا يعلمون حاله هذا، فلما مات اكتشفت الأُسَر أنه هو الذي كان يُمَوِّنُهم، رضي الله عنهم وأرضاهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

    فهذه باقة من القصص، ولعل سامعاً فيستفيد، ولعل في الأسئلة ما يكمل ما نقص من الكلام، ولا أريد الإطالة، فما بقي من وقت فيه الخير، وما سُمِع فيه الخير، لمن استمع فاتبع أحسن القول.

    أسأل الله لي ولكم توفيقاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجعلنا ممن يتأسى بأولئك السلف الصالح ، وأن نقدمهم نموذجاً وبديلاً في عالم التربية، والتراجم، والتاريخ، والسير، بدل الأقزام الذين ضُخِّموا من الكفرة والملاحدة، وغيرهم فإن هؤلاء أحق والله أن يدرسوا، وأن تترجم سيرهم، وأن يستفاد منهم في التربية، وعلم النفس، والاجتماع، وأن تؤخذ كلماتهم العطرة، الطيبة، وتُنشر في الفصول، والمساجد، والمحافل العامة، ونلغي هذه الثقافات التي رانت وطاشت على الساحة، ونستبدل بتلك الثقافة الحية الواعية، ليخرج جيل يعرف الله عزَّ وجلَّ، ويسجد لله، ويدين بالولاء لله سبحانه وتعالى.




    زهد العلماء في الأعطيات



    لما فتح أجدادنا كابل وهي عاصمة أفغانستان ، وكان قائدهم قتيبة بن مسلم -لله دره- وكان قبل المعركة يسجد ويبكي، ثم يسأل الله النصر فيفتح الله عليه، كان رجلاً قوياً مهاباً، يقولون: إذا دخل المسجد، كان ينكس رأسه، لكيلا يصطدم رأسه بسُرج المسجد لأنها كانت مسرجة بالزيت، وآتاه الله قوة في الجسم، وشجاعة هائلة، ذهب لفتح كابل بمائة ألف من المجاهدين المسلمين، وكان معهم محمد بن واسع الزاهد العابد، عالِِم أهل الكوفة ، ومحمد بن واسع أزدي، أجداده من الجنوب والطحاوي وعبد الغني المقدسي من الجنوب ، ولا تَمَيُّز ولا نفتخر بذلك، ولكن عَلَّ الابن أن يقول:

    نبني كما كانت أوائلُنا تَبْنِي ونفعلُُ مثلما فعلوا


    هم القومُ يَروُون المكارمَ عن أبٍ وجَدٍّ كريمٍ سيِّدٍ وابنِ سيِّدِ


    وهَزَّتُهم يوم الندى أرْيَحِيَّةٌ كأن شربوا مِن طعم صهباءَ صرخدِ


    يقولون لـمحمد بن واسع : " لماذا لا تتكئ؟ -وكان يجلس دائماً خائفاً- فقال: لا يتكئ إلا الآمن، وأنا لست بآمن، لا أتكئ حتى أجوز الصراط " إذا تعديتُ الصراط فسوف أتكئ، أما في الدنيا فلا.

    وصل محمد بن واسع وقتيبة ، وقبل أن تبدأ المعركة بوقت بسيط، قال قتيبة للمسلمين: " ابحثوا لي عـن محمد بن واسع ، فذهبوا فوجدوه قد صلى ركعتي الضحى، ثم قام بالرمح واتكأ عليه، ورفع سبابته إلى الحي القيوم وهو يقول: يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، اللهم انصرنا.

    فعادوا إلى قتيبة فأخبروه، فدمعت عيناه وقال: والله الذي لا إله إلا هو لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير.

    وبدأت المعركة وانتصر المسلمون، وأتوا بالغنائم كرءوس الأبقار من الذهب والجواهر والدرر، فالتفت قتيبة إلى الغنائم وقال: ما رأيكم لو عرضت هذه الأموال على أحد من الناس أيَرُدَّها؟ قالوا: ما نرى أحداً يرفضها - مَن الذي يرفض الذهب والمال والدرر والجواهر؟ - قال قتيبة : والله لأرينكم قوماً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام المال عندهم مثل التراب، نادوا لي محمد بن واسع فأتى، فقال له قتيبة : خذ هذا المال - مثل رأس البقرة من الذهب- فأخذه محمد بن واسع ، فقال قتيبة : اللهم لا تخيب ظني فيه!

    فخرج به من الخيمة، فقال قتيبة لأحد الجنود: تتبع محمد بن واسع وانظر أين يذهب بالمال؟ فتتبعه وقد أخذ صرة الذهب، فمر فقير في الجيش وهو يسأل الناس، فأنا فقير، فأعطاه كل المال، فذهب الجندي إلى الفقير، وقال له: أجب قتيبة ، فأتى فقال له: من أين أخذت هذا المال؟ قال: من محمد بن واسع ، فالتفت قتيبة بن مسلم إلى الناس، فقال: أتنظرون إلى زهدهم في الدنيا؟ "، هكذا كانوا؛ لأن رضوان الله لا يعادله شيء.

    علي بن أبي طالب له كلمة تُسَجَّل بماء الذهب، وهي في صحيح البخاري ، يقول: [[ارتَحَلَتِ الآخرةُ مُقْبِلَةٌ، وارتَحَلَتِ الدنيا مُدْبِرَةٌ، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ]].

    كان علي من أزهد الناس، يقول - وهو يصعد على بغلته، ويمشي في الأسواق، ومعه ثوب -: [[أنا أبو الحسن ، أهنتُ الدنيا أهانها الله ]] كان لا يلتفت إليها أبداً، ولذلك عظَّم الله أجره في الآخرة ورفع ميزانه.

    كلكم يسمع بـسليمان بن عبد الملك ، وأنا أريد أن أورد القصص أكثر مما أتحدث؛ لأن في قصصهم عبرة وحياة، قال مجاهد : [[القصص جند من جنود الله، يرسلها على من يشاء ]] وقال أبو حنيفة : [[سِيَر أهل العلم وأهل الفقه أحب إلينا من كثير من الفقه ]] فكانوا يتذاكرون السِّيَر.

    كان سليمان بن عبد الملك الذي بويع على الخلافة ينظر في المرآة ويقول: [[أنا الملك الشاب، أنا السلطان الهيَّاب ]] لكن الشباب والهيبة لم تفده، لما أتته سكرات الموت صُرِع وما أغنى عنه ماله، ولا نسبه، ولا أصله، ولا مُلكه، حَضَرَ سكرات موتِه عمر بن عبد العزيز الخليفة بَعْدَه، فأخذ سليمان يقول - وهو في سكرات الموت -:

    أفلحَ مَن كان له كبارُ إن بَنِيَّ صبيةٌ صغارُ


    بيتٌ واحد يقول فيه: أفلح الذي عنده أبناء كبار بوليهم المـلك بعـده؛ لأن أبناءه كانوا صـغاراً، قال عمر بن عبد العزيز : [[لا يا سليمان . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15] ]] أما من عنده أبناء صغار، أو كبار، أو سود، أو حمر لا يفلحون، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196].

    دخل سليمان المدينة ، فسلم عليه أهل مدينة محمد عليه الصلاة والسلام، وباركوا له بالخلافة إلا قيس بن أبي حازم -أحد العلماء- لم يبارك له ولم يأت إليه، فأرسل له سليمان الجنود، فأتوا به فدخل عليه وقال: [[السلام عليكَ يا سليمان ، قال: الناس يقولون: السلام عليكَ يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سليمان ، قال: لأني لم أبايعك بالخلافة، وأنت بُويِعْتَ بالخلافة على غير رضىً مني، فكيف أسميك أمير المؤمنين؟!

    قال: ما لنا نحب الحياة ونكره الموت يا قيس ؟

    قال: لأنكم عمَّرتم حياتكم وخرَّبتم آخرتكم، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب، قال: ما رأيك أن تصحبنا؟ قال: كيف أصحبك؟ قال: أعطيك نصف ملكي وتصحبنا، قال: لا. إن الله يقول: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113] وكم تعطيني من جناح بعوضة؟ أتعطيني نصف جناحها وقد قال عليه الصلاة والسلام: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء } ]].

    وسليمان هذا يبخت في القصص، محظوظ في المجابهات العلمية، دخل الحرم يطوف، فوجد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وانظر إلى الثلاثة! عبد الله أفضل من سالم ، وعمر أفضل من عبد الله ، وابنه هو سالم .

    إن العصا مِن هذه العُصَيَّةْ لا تَلِدُ الحيَّةُ إلا حَيَّةْ


    كان سالم يطوف بالبيت وحذاؤه بيده -وهو زاهدٌ عابد يقولون عنه: ثَمَّنَّا ما عليه فوجدناها بثلاثة عشر درهماً- فمر سليمان بالموكب ومعه الوزراء والأمراء، فلما رأى سالماً توقف واقترب منه ليُقَـبِّل يده لأنه عالم الأمة، فسحبها، فقال لـه سليمان : [[يا سالم ! ألَكَ إليَّ حـاجة؟ قال سالم : يا سليمان ! أما تستحي من الله؟ أتعرض عليَّ المسائل في بيت الله؟ فتركه، فلما خرج عرض عليه السؤال، قال: ألَكَ إليَّ حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، أما الآخرة فلا يملكها إلا الله، قال: والله الذي لا إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها وهو الله، فكيف أسألها منك؟ ]].

    هذا درس للواعين والنابهين أن يعلموا أن ما عند الناس لا يساوي شيئاً: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

    وأما أفضل ما يمكن أن يكنـزه العبد: فهي العبادة، والصلاح، والعلم النافع، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].

    دخل أحد الخلفاء إلى المدينة ، قيل إنه الوليد بن عبد الملك ، فأتى إلى الناس بأعطيات، وجاء بأعطية لـسعيد بن المسيب (ذهب وفضة) جعلها في كيس، وأرسل جندياً إليه بها، فذهب إلى سعيد فوجده يصلي ركعتين، فلما سلَّم قال: خذ هذا العطاء يا بن المسيب ، قال: ممن هذا العطاء؟ قال: من الوليد بن عبد الملك ، قال: هيه! يسرق أموال المسلمين ويعطيني العطاء، ويحاسبني الله على عطائه، ربما أراد غيري، قال: لا. بل أرادكَ أنتَ، قال: اذهب إليه بالعطاء واسأله -وكان الوليد جالساً في طرف المسجد- هل يريدني أم يريد غيري؟! فأخذ الكيس وذهب به، وأخذ سعيد بن المسيب حذاءه، وخرج من المسجد.

    وأمرهم عجيب في ذلك، ومقصودهم في الزهد كما قال ابن تيمية : " الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة "، أما ما ينفعك في الآخرة فهو من أحسن ما يكون إذا أتى من وجه شرعي مباح لا مغبة فيه ولا ريبة ولا حرج.















    تحمل المشاق في طلب العلم

    أما تحمل علمائنا للمشاق: فأمر عجيب، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ذكر موسى في القرآن، وأخبر أنه ركب البحر في طلب العلم، وبوَّب البخاري في كتاب العلم: (باب ركوب البحر في طلب العلم) وموسى عليه السلام قد وقف خطيباً في بني إسرائيل، فقالوا له: أتعلمُ أعلمَ منك في الأرض؟ قال: ما أعلمُ أعلمَ مني، فلامه الله وعاتبه على أنه ما ردَّ العلم إلى الله، فقال الله: بل عبدنا بـمجمع البحرين الخضر أعلمُ منك.

    فسافر إليه وطلب منه أن يعلمه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق، فلما انتهت القصة وقال الخضر: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] قال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله موسى، ودِدْتُ أنه صبر حتى يُقصَّ علينا مِن نبئهما } يقول أهل العلم - والحديث صحيح -: {لما ركب موسى والخضر عليهما السلام في القارب، وأصبحوا في البحر، وإذا بعصفور ينقر من البحر - يشرب من البحر - فقال الخضر: يا موسى! ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور من هذا البحر }.

    ذكر البخاري : سافر جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه شهراً كاملاً في طلب حديث واحد من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس في مصر ، في العريش ، فخرج عبد الله بن أنيس ورأى صاحبه فعانقه، فقال له: [[ادخل واجلس، قال: لا. إنما خرجت لوجه الله، ولا أريد أن أفسد هجرتي، أريد الحديث الذي سمعتَه من الرسول عليه الصلاة والسلام ]] فأخذ الحديث وهو واقف، ثم ركب ناقته وانصرف.

    أما سعيد بن المسيب فيقول عن نفسه: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد كنت أسافر الثلاثة الأيام بلياليهن في طلب حديث واحد ]] ولذلك بارك الله في علمهم وجهدهم، رغم أنه لم يكن عندهم ما عندنا من الوسائل الحديثة: كالسيارات، والهواتف، والمطاعم الشهية، والمراكب الوطية، والملابس الهنيَّة المَرِيَّة، ولكن قلَّ التحصيل، ونشكو حالنا إلى الله الواحد الأحد.

    يذكرون عن القفال - أحد علماء الشافعية - أنه سافر لطلب العلم، وكان عمره أربعين سنة، فلما مشى في الطريق، قال له الشيطان: "كيف تطلب العلم في الأربعين؟ - والشيطان يوسوس - فرجع من الطريق، ولما رجع مرَّ برجل يعمل على سانية، والساقية وكان الرجل يُخرج الماء من البئر، وقد أثر الرشا والحبل في الصخر، فقال القفال بعدما اعتبر بتأثير الحبل في الصخر مع المداومة:

    اطلب ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا


    أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا


    قيل لـعامر الشعبي وهو عالم جليل: " بم طلبتَ العلم؟ قال: بصبر كصبر الجمال، وببكور كبكور الغراب "، يبكر في الصباح مثل بكور الغراب، من بعد صلاة الفجر يطلب العلم، ويصبر كصبر الجمال في طلبه حتى حصله.

    كم سافر الإمام أحمد ؟ دخل أكثر من ثلاثين إقليماً في طلب الحديث، مشياً على رجليه، معه بُقْشَة فيها خُبْزُه من شعير وملح، دخل خراسان ، ومدنها: سمرقند ، وبخارى ، وتركستان ، وطشقند ، والسند ، وأطراف الهند ، وأطراف أفغانستان -على ما يُنقَل في سيرته- ودخل مصر والعراق ، والحجاز ، وذهب إلى الشام ، ثم دخل اليمن ، وطاف الأقاليم، حتى قال بعضهم: " لو جُمِعَت سَيرته، أو المسافات التي سارها لطوقت الدنيا ".

    كان يمشي ليل نهار، ذهب إلى عبد الرزاق في صنعاء يطلب العلم منه، فوفقه الله بـعبد الرزاق وهو يطوف عند البيت، فقال يحيى بن معين : " يا أحمد ! هيا بنا، هذا عبد الرزاق قد حضر نأخذ العلم منه ونعود، قال أحمد : أنا خرجت لله، وأريد أن يعود عبد الرزاق إلى صنعاء ؛ لأذهب إليه ولتكون سفرتي في سبيل الله، فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء ، سافر الإمام أحمد إليه، وانتهى ما لدى الإمام أحمد من شرابه وطعامه حتى قال: عملت حصَّاداً في بعض الأيام لنفقة بطني " عمل حصاداً يحصد الزرع لما انتهت نفقته في طلب الحديث، وعاد بحديث كثير، وترك لنا: المسند ، الذي لو كُتِب بالدموع أو بالدماء ما أنصف.



    الإنفاق في طلب العلم



    أما الشافعي : فقالوا: " أنفق ثلاثين ألف دينار " وهي ميزانية هائلة، كان كلما أتاه عطاءٌ أنفقه في طلب العلم، سكن مكة مع أمه، وكانت فقيرة، وبيتهم كان ضيقاً، فكان يذهب يطلب العلم، ولا يجد أوراقاً؛ لأنها غالية الثمن -ونحن عندنا مطابع ودفاتر ووسائل وترجمة، لكن: أين من يُحَصِّل؟! - فكان يأخذ اللخاف، والرقاع، والعظام، والصخور الملساء، ويكتب فيها العلم بالفحم، حتى ضيَّق على أمه السكنى، وقالت: " يا بني! أنخرج ونترك البيت لكتبك؟ " - أي: أصبح الدار مكتبة، وأصبح هو وأمه في طرف البيت.

    ثم ذهب إلى البادية، فحفظ أشعار ثلاثين شاعراً من شعراء هذيل، ثم عاد، فقال له رجل من أهل مكة : " إني أراك نابها،ً فصيحاً، ذكياً، فاذهب إلى عالم المدينة مالك بن أنس ، فاطلب منه العلم "، فذهب.

    قال الشافعي : " حفظتُ الموطأ في تسع ليالٍ "، لا إله إلا الله! الموطأ مجلد كامل تعادل آثاره، وأحاديثه، ومقطوعاته، ومرسلاته، وموقوفاته ثلاثة آلاف حديث حفظه في تسع ليالٍ عن ظهر قلب، فلما جلس عند الإمام مالك ، كان يقرأ عليه، فقال له: " إني أرى عليك نوراً، فلا تفسده بالمعصية ".







    الصبر والذل في طلب العلم



    أما عطاء بن أبي رباح فكان عبداًَ -وكلنا عبيدٌ لله، والإسلام لا يعترف بالدماء، ولا بالأنساب، ولا بالقبائل، ولا بالأسر؛ ولكن ميزانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] - لامرأة من مكة ، فأصيب بمرض الشلل، وأصيب بمرض في جسمه، فتركته، فمكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم، حتى بَرَّز في العلوم، يقول: [[ما رفعت فراشي من الحرم مدة ثلاثين سنة ]] ليلاً ونهاراً وهو يطلب العلم؛ حتى أصبح عالم المسلمين.

    أما ابن عباس : وكان الأَولى أن يُقدَّم في هذا الباب، ولكننا نقدمه مهما تأخر لفظاً فإنه متقدم رتبة.

    ابن عباس رضي الله عنهما قال -واسمَع لهذه العبارة وقد صحَّت عنه--: [[ذَلَلْتُ طالِباً فَعَزَزْتُ مطلوباً ]] ويقولون:

    العلمُ حربٌ للفتى المتَعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي


    فمن تكبر لا ينال العلم.

    وعند البخاري موقوفاً على مجاهد : [[لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر ]].

    فلا إله إلا الله! ما أحسـن طلاب العلـم إذا تواضعوا في طلبه! قالوا لـابن عباس : كيف حصلت العلم؟ قال: [[كنت أخرج في الظهيرة في شدة الحر، فأذهب إلى بيوت الأنصار، فأجد الأنصاري نائماً، فلا أطرق عليه بيته، فأتوسد بُرْدي عند باب بيته، فتلفحني الريح بالتراب، فيستيقظ الأنصاري، ويقول: يا بن عم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ألا أيقظتني أُدْخِلك؟ فأقول: أخاف أن أزعجك ]] فأصبح عالم الأمة رضي الله عنه وأرضاه، .
    خشية العلماء لله تعالى

    أما خشية الله عزَّ وجلَّ في أهل العلم من أهل الإسلام: فالله يقول في القرآن: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]؛ لأنهم تعرفوا على الله فهابوه، وكل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله، فإنه كلما اقتربتَ منه خِفته، هذه قاعدة؛ لذلك تجد الفاجر لا يرهب الله، بل يضحك ويمرح، ويعربد بكلام سيء، ويعصي الله، ويفجر وليس بخائف، والمؤمن التقي العالم بالله إذا عصى معصية، أو فعل فعلة استوحش، وبقي في قلق واضطراب وفزع وخوف وحزن وهَمٍّ وغم، يقول سيد قطب في الظلال : " إن من الناس من يسحق الذنوب كالجبال ولا عليه منها، ومن الناس من يتحرج من مثاقيل الذر من الذنوب "، ويغني في ذلك حديث ابن مسعود الصحيح عند البخاري موقوفاً عليه: [[إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار من على أنفه، فقال به هكذا ]] سهل عندهم وبسيط، فكل شيء ميسر، جعلوا الكبائر صغائر، واستمرءوها، أما العلماء فخائفون من الله لخشيته.



    تأثر العلماء بالقرآن



    كان ابن عباس يبكي حتى يرحمه جلساؤه، قال أبو وائل : [[والله لقد رأيت جفن ابن عباس من البكاء كالشِّراكَين الباليَين ]] وصح عنه: أنه قام ليلة في الحرم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يبكي: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].

    أبو بكر لما نزلت هذه الآية كما في المسند سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام فتَماطَّ لها، قال: {ما لك يا أبا بكر ؟ قال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ قال: غفر الله لك يا أبا بكر ، ألستَ تهتم؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ تمرض؟ قال: بلى، يا رسول الله، قال: فإنه لا يصيب المؤمن مِن هَمٍّ، ولا وَصَبٍ، ولا غَمٍّ، ولا نَصَبٍ، ولا مرض، إلا كَفَّر الله بها مِن خطـاياه } أو كمـا قال عليه الصلاة والسلام.

    ومِمَّا يؤثر في هذا الجـانب ما ذكـره وكيع : أن ابن عمر رضـي الله عنهـما قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، لماذا؟ لأن طريق الجنة لا يأتي إلا بخشية الله، وليست الخشية بالبكاء فقط، قال بعض أرباب القلوب: رُبَّ باكٍ دمعت عيناه، ولكن لا ينظر إلى نظر الله إليه، ورب ساكت ساكن يخاف من وقعات قدمه أن تطيش به في نار جهنم وليس المقصد البكاء، لكنه من دلائل الخشية، وإنما المقصد خشية الواحد الأحد: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    خرج ابن المبارك العالم، الزاهد، العابد، الشهير مجاهداً، فمر بقصر الطاهر بن الحسين ، وهو قصر في خراسان ، كان في الليل عنده سُرُج من الزيت والشحم، فنظر إلى القصر، وكان القصر بهياً مهولاً، فدمعت عينا عبد الله بن المبارك ، وقال: " والله لقصيدة عدي بن زيد أحب إليَّ وأحسن عندي من هذا القصر "، وعدي بن زيد جاهلي، يقول في قصيدته:

    أيها الشامِتُ المُعَيِّر بالدهرِ أأنتَ المُبَرَّأ الموفورُ؟!


    من رأيت المنون خلفن أم من ذا عليه من أن يضام خفير


    أين كسرى كِسْرى المُلوك أنُو شر وان بل أين قَبْلَه سابورُ


    ثم قال ابن المبارك وهو يبكي: [[ضيعنا حياتنا في بعض المسائل، وتركنا الجهاد ]] وهو صاحب المقطوعة المليحة:

    يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَنا لعلمتَ أنَّك بالعبادة تلعبُ


    وهي مشهورة، وهو صاحب تلك المقطوعات الجيدة الرائعة غفر الله ذنبه، ورفع منـزلته عنده؛ لكن المقصد: خشيته سبحانه تعالى.

    قال مالك بن أنس : [[ما ظننت أن في أهل العراق خيراً -هذا مالك يرى ذلك- حتى رأيتُ أيوب بن أبي تميمة السختياني سلم على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو عالم أهل العراق - فكادت أضلاعه تختلف من كثرة البكاء ]].فاين نحن رحمكم الله من هؤولاء

  2. #2
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sat May 2007
    الدولة
    أم الدنيا وارض الكنانه
    العمر
    39
    المشاركات
    120,668
    معدل تقييم المستوى
    21474973
    اشكرك على كل جديد

    مودتى

  3. #3
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Wed Jun 2008
    الدولة
    صانعة رجال البواسل رجال الهيه المملكة الهاشمية
    المشاركات
    146,552
    معدل تقييم المستوى
    11586669
    مشكور اخي
    سلمت
    لا حرمنا جديدك

  4. #4
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Tue Oct 2007
    الدولة
    بقلـــب ابي وامي
    المشاركات
    14,701
    معدل تقييم المستوى
    32
    فكيف برب العباد الذي يرى الخطأ منك صباح مساء، ويغفر، ويعفو، ويستر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى
    بالفعل كلام رائع اخي
    يسلمووو ع الاختيار الموفق

  5. #5
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Fri Dec 2008
    العمر
    30
    المشاركات
    4,942
    معدل تقييم المستوى
    20
    يعطيك العافيه

  6. #6
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Apr 2009
    المشاركات
    96
    معدل تقييم المستوى
    15
    مشكور اخي
    سلمت
    لا حرمنا جديدك

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-01-2018, 09:30 PM
  2. معنى اسم جواهر 2017 - ما هو معنى اسم جواهر - معنى اسم جواهر - gawagr
    بواسطة ريحانة الوادي في المنتدى معاني الأسماء - أسماء المواليد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 24-07-2017, 04:05 PM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-11-2016, 01:53 PM
  4. ساعدوا ... جواهر .
    بواسطة الاسطورة في المنتدى منتدى الاخبار العربية والمحلية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-08-2010, 09:55 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك