لا لعاصمةٍ جديدة .. نعم لـ متروبوليتان عمّـان
المهندس عامر البشير
01-11-2017 03:41 PM
عمّان التي نعرفُها اليوم لم تأخذ حقّها من التخطيط، وهي نتاجٌ ضمَّ بلديات متوسطة الحجم ومجالس قروية صغيرة الحجم، ولم يتوفّر لها فرصةُ استكمالِ البُنيةِ التحتيّة ‏اللازمة، حيث جرت العادة أنّ الخدمات والتنظيم تلحقُ العمرانَ ولا تسبقه فيها؛ ‏بسببِ أنّ ملكيةَ الأرض تعودُ للأهالي والمواطنين، ولا تعودُ للخزينة، فالدولة لا تملك أراضٍ تذكر داخلَ مدينةِ عمّان، هذا جعل من مهمّة قطاعات الخدمات والجهات التنظيمية صعبةً في تلبيةِ الاحتياجات في ظلّ الطلب المتزايد على الخدمات وبشكلٍ فرديّ وليس جماعي، والأساس أن يتمّ فتح مناطق محصورة جغرافياً للتنظيم، تنفّذ البُنية التحتيّة اللازمة فيها والخدمات جماعياً وليس فردياً، التي تتناسبَ مع حاجات السّكن والاستعمالات الأخرى بإطارٍ يحقّقُ توازناً بين العرض والطلب، الذي يحقّق فعاليةً ولا يستنزف الأرضَ أو الأموال، وهذا الذي حمّلَ إدارة المدينة كُلفاً إضافيةً، وكان سبباً رئيسياً في حدوثِ تشوّهاتٍ تخطيطية وتنظيمية، وأضربُ مثلاً: شارع عامر بن مالك في منطقة تلاع العلي، طولهُ كيلومتر واحد، كان يمثّل ثلاثَ وحداتٍ تنظيمية مستقلة داخل حدود بلديتين قبل ضمّهما لأمانة عمّان، وهي تلاع العلي (أم السماق وخلدا) وأصحبت ضمن منطقةٍ واحدة، وأحكام التنظيم تختلفُ من بلديةٍ لأخرى على نفس الشارع قبل الضمّ، واستمرّ ذلك حتى يومنا هذا، فاستعمالات الأراضي وأحكام التنظيم تختلف اختلافاً كلياً للقطعِ الواقعة داخل حدود كلّ بلدية منها، وكذلك الارتدادات، حيث تتفاوت من الصّفرِ إلى عشرةِ أمتارٍ للارتداد الأمامي، كما أنّ هناك حقيقة غائبة بأنّ مدينةَ عمّان لم يتسنّى لها الاستفادة من دراسات مخطط شمولي شامل، ولم يتحقّق استقرار يذكر لمخرجاتٍ لأيّ من هذه المُخططات الشمولية بسبب الهجرات القسرية، فأوّل مخطط هيكلي أنجز كان أواخر خمسينيات القرن الماضي لحقتهُ الهجرة الفلسطينية عقبَ هزيمة 1967، ومخطط عمّان الكبرى الشمولي الذي أنجز بعد دمج بعض البلديات في محيط أمانة العاصمة في العام 1988، لحقتها عودةُ أبنائنا الأردنيين بعد اجتياح الكويت في العام 1991، وآخرها مُخطّط عمّان الشمولي واستراتيجية نموّ المدينة المُنجز في العام 2008، حيث لحقه اللجوء السوري الأخير.

أشاركُ الرأيَ كلّ من يعتقدُ أنّ عمّان التي نعرفُها اليوم أصبحت طاردةً وليست جاذبة، ليس فقط للسكن، وإنما أيضاً للاستثمار لأسبابٍ عديدة، منها على سبيلِ الذكر لا الحصر الازدحاماتُ المُرورية نتيجةَ غيابِ الخططِ والاستراتيجيات والرؤية في معالجتها، في ظلِّ غيابٍ مُطلقٍ لمنظومةِ نقلٍ حضريٍ، وتأخّر إنجاز مشروعِ ‏باص التردد السريع لما يزيد عن 10 سنواتٍ حتى يتمَّ إنجازه، الذي اعتبره حجر الزاوية، وعنصراً أساسياً ومهماً، ولا يشكّلُ وحدَهُ مشروعَ النقلِ الحضري الذي تستحقّهُ مدينة عمّان، كما وأضيفُ أسباباً أخرى تتعلّقُ بسياسات حكومات مُتعاقبةٍ أوصلت قطاعَ النقل العام، ليس في عمّان وحدها، إلى ما وصل إليه ابتداءً بمنحِ تصاريح مُشغلي الخطوط للأفراد ‏على قاعدةِ تنميةٍ اجتماعيةٍ؛ لتمكينِ العاملين في قطاعِ النّقل من العيشِ منه، ‏وليس بهدفٍ تنمويٍ أولويتُهُ خدمة قطاع الرّكاب الذي يشكّل 40% من المواطنين، وكان آخرها عندما أوقفت الحكومةُ الحاليّةُ العملَ بصندوقِ دعم خطوط النقل العام، الوارد في قانونِ تنظيم نقل الركّاب ‏المُقر في عهدِ مجلس النواب الثامن عشر، ولا أنسى أيضا بيروقراطية أمانة عمّان الكبرى الإدارية، وممارسات سلبية في عهدِ إدارات مرّت عليها إذا ما أُضيفت للأسباب السابقة، وخصوصاً في عهدِ إدارةٍ امتازت بتخبّطٍ في القرارات، وتعطيلِ تنفيذِ مُخرجات المُخطّط الشموليّ، وتأجيل وتيرة تحديثِ واستكمال ‏البُنية التحتيّة، وعدم قدرتِها على التواصلِ مع المُستثمرين، واستيعابِ مشاريعٍ بحجّةِ أنها تختلفُ نوعاً وكماً عن المعتاد، بالرغم من طبيعتها وإذا ما أضيفَ ‏كلُّ ذلك إلى تراجعِ خدماتٍ حكومية أساسيّةٍ وحيويّة تخصُّ وزارةَ التربية والتعليم ووزارة الصحة، بالقياسِ مع نوعِ وجودة الخدمات التي قدّمتها سابقاً، وإذا ما قورنت كمعايير نسبةً للمعدّل الوطنيّ العام في المملكة ‏لهذه الخدمات، مع ما يقدّمُ في وسطِ وشرقِ ومحيط عمّان، من حيثِ نوعيةِ المدارس ونسبةِ الطلاّب للمعلمين، ومعايير تقديمِ الخدمات الصحية، ومؤشرات الصحةِ العامة، حيث أنه من الواضحِ أنَّ هذه الخدمات تراجعت كثيرا.

وأؤكد هنا إذا ما بقيَ الحالُ على ما هو عليه في تكريسِ النهج، ستضيعُ فرصٌ كثيرةٌ بإمكانيّةِ استقطابِ كلّ من يبحث عن ملاذٍ آمنٍ لروحِهِ ومالِه تحت مظلّة الأمنِ والأمان الأردنية، كما ستكون عمّان خارج الخارطة السياحية، ولن تكونَ مقصداً لاستقطابِ الاستثمارات لا من الداخل أو من محيطها العربي للسكّن، حيث أنّني ما زلتُ أرشِّحُها لأن تكونَ المقصدَ الأولَ لسكنِ الأُسر في منطقتنا العربية؛ لأسبابٍ تتعلّق بالمناخِ والثقافة المعتدلتين.

وأخيراً وليس آخراً أسبابٌ تتعلّقُ بملكيّة الأراضي على الشيوع، وتأخّر إجراءاتِ التقاضي والإفراز في المحاكم، والذي أدّى إلى وجود جيوبٍ تنظيميّةٍ داخل حدود قصبة المدينة فارغةٍ من العمران، بالرغم من أنها مكتملة البُنية التحتية، أكّدت الدراسات قدرتَها على استيعابِ ثلاثةِ ملايين مواطن للسكن فيها، وكذلك بسبب مساواةِ ضريبة الأراضي على القطع داخل قصبة المدينة مع قطعِ الأراضي بمحيطها، وغياب حوافز تشجّعُ تطوير الأراضي وإقامة البُنيان، والتمتّع بإبقائها فارغةً بسببِ تدنّي الضريبة على الأراضي غير المبنيّة، وتضخّم قيمتها السعرية مع الأيام لصالحِ الأجيال التي تلحقهم، بالرغم من وجودها داخل قصبة المدينة، وتعطيل الاستفادة من البُنية التحتيّة المكتملة التي أنشأت منذ سنواتٍ عديدة، وغياب أيّ حوافزٍ لتحقيقِ سياسةِ التكثيف العمراني، التي تختصر من التوسّع الأفقي للبُنى التحتية من خلال منح طوابق إضافية أو منح نسب بناء مرتفعة داخل القصبة؛ لخلق توازنٍ في معادلةِ ارتفاع كلفة الأرض بعد تقسيمها على عددِ الوحدات السكنية على نفسِ القطع، الذي يحقّقُ جدوىً اقتصاديةً معقولةً لمُطوّري المشاريعِ من المستثمرين وبأسعارٍ في متناول المستفيدين من أبناء عمّان.

تضاربُ التصريحات الرسمية بخصوصِ إنشاء ' عمّان جديدة '، وبغضّ النَّظرِ عن حقيقةِ ذلك، أو إذا كان هناك أيّ أهداف غير مُعلنة، ولا أدري إذا شكّل أوّل تصريح رسمي عنواناً أكبر من المضمون، أو أمنيات تتعلّقُ بأحبالها حكومةٌ استنفذت أجندتها، أو منطقة خاصّة لا تتبعُ لأمانة عمّان، تتمتّع باستقلالٍ إداريّ وماليّ، ومهما كان مُسمّاها لن يفرق، إلاّ أنها يجبُ أن لا تكونَ عاصمةً جديدةً أو بديلةً لعمّان بأيّ حالٍ من الأحوال، وهنا أتساءل لماذا لا نستفيدُ من المساحات الكبيرة التي تملكها الخزينةُ لتقديمِ نموذجٍ مُختلف لم يتسنّى لـ 'عمّان' التاريخية أن يكونَ مُتاحاً لها من ناحيةِ حجم المشاريع التي تحتاجُ لملكيّات لا يمكن توفّرها إلاّ من أراضي الخزينة وبمساحاتٍ كبيرة، ويستحيلُ أن نجدَها داخلَ حدودِ أمانة عمّان، مثل إقامةُ أرضٍ للمعارض أو مدنٍ ترفيهيّةٍ، ومدينةٍ إعلاميّة، ومدينةٍ للإنتاج السينمائي، ومراكز للاتصالات 'Call Centers'، كالمعمول فيها في الهند، خدمةً لشركاتٍ عالميةٍ وغيرها وبالشراكة مع القطاعِ الخاص، كما تتسنّى فرصةٌ لإنشاءِ البُنيةِ التحتيّة وعمل المُخططات الهيكلية والتفصيلية، وتوفير الأرض لإقامةِ مشاريعٍ سكنيّةٍ لذوى الدخل المُتدني والمُتوسط والاستفادة من إمكانيات وخبرات جمعية مستثمري قطاع الإسكان، وتقديم الأراضي بكُلفٍ مُتدنيةٍ بنفسِ قيمة إنشاء البُنى التحتية الخاصّة بها، الذي يخفّض كلفةَ امتلاكِ الشقة لتصبحَ بحدّها الأقصى 35000 دينار كمعدّل، وذلك بسببِ خصمِ حصّة سعر الأرضِ المقدمّة من الحكومة وبأسعارٍ تفضيلية للقطاع الخاص وعدم تحميلها على سعر الشقة، ولا سيما بحث آليات تقديمُ دعمٍ حكوميّ لتخفيضِ الفوائد البنكية؛ لتحقيق فكرةِ سكنٍ كريم لعيشٍ كريم الذي أُسيءَ فهمُ التوجيهات الملكية السامية بخصوصِهِ، وأدّى إلى قصورٍ بتنفيذُه.

وفي هذا المقام، لا بدّ من التزامٍ حكوميّ بالقيام بواجبها بحقِّ عمّان التاريخ والمُستقبل، ودعمِ إدارتها ومجلسها وأهلها لاستكمال مشروعِ النّقل العام الحضري، وتفعيل العملِ بصندوق دعم خطوط النقل العام، ودفع مُستحقات الأمانة الماليّةِ المُتأخرةِ في ذمّةِ الحكومة، وتوجيه الأمانة لإعادةِ تقييمٍ مخطط عمان الشمولي المُنجز عام 1988، وإعادةُ تقييمٍ للمُخطط الشموليّ المنجز عام 2008، وتنفيذُ توصياتهِ فيما يتعلّقُ باستكمالِ شبكة الطرق الدائرية التي ستحوّلُ التخطيطَ الشّعاعي للطرقِ إلى شبكةٍ عنكبوتية، ولتنفيذِ مجموعةٍ من التوصيات الأخرى: مثل زيادة التكثيف العمراني، حيث لم يتمّ تعديلُ كثافة البناء سوى بزيادة 30%‏ من آخر تعديلٍ على نظامِ الأبنية لمدينةِ عمّان منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً، أي بزيادةٍ تعادلُ 300 متراً مُربعاً مباني فقط على الأرض التي مساحتها دونم وتنظيمها سكن (أ) وقياساً بذلك على باقي أصناف السكن، بالرغم من زيادةِ أسعار الأراضي عن 2000%‏ عن أسعارِ الأراضي بالمقارنة مع عام 1987. وتمكينِ أمانة عمّان من تخصيصِ المبالغ التي تقبضها لقاءَ زيادةِ حقوقِ التطويرِ المسموحة وتخصيصها لصالحِ تطويرِ المشروعِ المُروري، ومشروع النّقلِ العام الحضريّ للمدينة، وإنهاء كلّ مشاكل اختناقات والتحدّيات المُرورية المتزايدة.

وأختمُ بأنّ الحديثَ عن عاصمةٍ جديدةٍ استفزازي ومنسلخٌ عن الواقع، ولا أجدُ له ما يبرّره، مضافاً إليه تعذّر توفير كُلف إنشاء بُنيةٍ تحتيّةٍ لمثلِ هكذا مشروع لدولةٍ تقترضُ لتغطيةِ نفقاتها الجارية، ولم تخصّص أو ترصّد أيّ من الحكومتين الأخيرتين أيّ مبالغٍ في موازناتها لمشاريع رأسمالية آخر 6 سنوات عدا عن الممول من المنحة الخليجية، ونجدها عاجزةً عن توفير منظومةِ نقل عام، وتحسين مستوى الخدمات التعليمية والصحية، وتجدر أهمية ذلك في إعادةِ جسور الثقة بين المواطن والدولة، وترميم وصيانة العقدِ الاجتماعي بينهما، وأخيراً الخوفُ كلّ الخوف أن نفوّتَ فرصةَ استفادة الأردنّ ومواطنيه من مثل هكذا مشروعٍ تنمويّ وحيوي، وأن يتحوّل المشروعُ لمجرّد مضاربةِ أراضٍ تستفيدُ منها فئةٌ ضئيلةٌ ستؤدي لاستنزاف السيولة وتركزها في ملكية الأراضي فقط، والمرشّح لأن تتضخّمَ أسعارُها، لا لأسبابٍ موضوعيةٍ أو واقعية، أو تعكس كلفة إنشاء بُنيةٍ تحتية، أو أيّ نشاطٍ إنتاجي، وإنما تمنّيات، كتمنيات حكومات لا تحسب النتائج، فتبقى الأموالُ في استثمارات خاملة بدلاً من تحفيزها وإشراكها في الدورةِ الاقتصادية؛ لرفعِ مُعدلات الإنتاج وأرقام النموّ، فيتحوّل الهدفُ الأسمى من بثِّ روحِ التفاؤلِ إلى حالةِ انتكاسٍ وإحباطٍ نحنُ في غنىً عنها... وللحديثِ بقيـّـة.

*المهندس البشير: نائب أمين عمّان سابقاً، وعضو مجلس النواب السابق، ورئيس لجنة الخدمات العامة والنقل النيابية في مجلس النواب السابع عشر.