كانوا معنا على سفرة الإفطار .. «ادعوا لهم بالرحمة»

كلما عاد شهر رمضان المبارك بساعاته وأيامه التي وهبها الله خصوصية عن بقية أيام السنة، عادت معه الذكرى والحنين لما مضى من سنوات، وممن عاشوا معنا، ولأن الموت حق فلا بد لأناس كانوا رمضان الماضي على ظهر الأرض يعمرونها ويأكلون من رزق الله، اليوم هم في بطنها ينتظرون من الأحياء الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، فحينما يجلس من فقد عزيزاً خلال السنة الماضية على مائدة الإفطار يعيده الحب والشوق وأواشج القربى لذلك الإنسان، وعلى الرغم من جمالية لحظات الإفطار ومعها السحور إلاّ أنها تكون مؤلمة حد الوجع لمن فقد شخصاً قريباً، وحينها تكون لحظات تأمل ولا تخلوا من الألم والمرارة، ورمضان المبارك شهر المغفرة والرحمة، وهو شهر لمحاسبة النفس ومراجعتها والخلوة مع الروح.

حزن وفقد

وقال د. أحمد البوعلي -إمام وخطيب جامع آل ثاني بالهفوف-: إن فقدان شخص عزيز بالوفاة أمر في غاية الصعوبة، وبرغم أن الموت هو الحقيقة المُطلقة في هذه الحياة، وأن الموت مصير كل حي، إلاّ أن مشاعر الحزن والشعور بالفقد قد تكون أحياناً قوية، حسب قرابة الشخص المتوفى من الأشخاص الذين يُعانون مشاعر الحزن والفقد، مضيفاً أنه ينبغي لنا في أيام رمضان أن يكون هذا الموضوع لنا موعظة فمن كانوا بالأمس معنا اليوم نفتقدهم رحلوا إلى عالم الغيب، لذلك لنتعلم ونستفيد من هذه المواضيع وأن نتقي الله في أنفسنا وديننا، مبيناً أن الشعور بالذنب وتأنيب الضمير ربما يكون قوياً في بعض الحالات، فلنتدارك أنفسنا وبالذات في هذا الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك الذي هو بمثابة جائزة كبرى ونعمة عظمى لمن أدركه، فلنحاسب أنفسنا في هذا الشهر المبارك، مؤكداً على أن الموت قَضاء نافِذ، وحُكم شامل، لكن ماهو واجبنا تجاه هؤلاء الذين وافتهم المنية قبل أيام أو أشهر ولم يستطيعوا أن يصوموا معنا هذا الشهر الفضيل؟، مشيراً إلى أن العلماء أجمعوا على أنّ الميّت ينتفع بالصّدقات، سواءً أكانت صدقةً جاريةً، مثل بناء مسجد أو سقاية ماء، أو كانت صدقةً غير جارية، مثل إعطاء فقير بعض النّقود بنيّة أن يحصل الميّت على الثّواب منها.

صلة رحم

واستذكر جعفر عمران -إعلامي- في رمضان هذا العام عمه عبدالمجيد بوحليقة -أبو عبدالرؤوف- الذي فارق الحياة قبل شهور، مضيفاً: كنا نجتمع عنده في أول يوم من شهر رمضان، وكان يمتعنا بأحاديثه وذكرياته الجميلة، ونتعرف على مواقفه في حياته العملية التي تعطينا الخبرة في الحياة، نفتقده أكثر في رمضان، فكان حريصاً على صلة الرحم وزيارة الأصدقاء، مبيناً أن فقدان شخص عزيز عليك يجعلك تعيد النظر في سلوكك، وفقدان عزيز عليك ينبّهك من غفلتك لتبدأ تعي ما يجب عليك فعله، وأن العمل الذي يبقى هو عمل الخير، والناس تتذكر ذكرك الطيب من قول وفعل ومساعدة الآخرين.

فقدت أبنائي

ولم تجف دموع حزن عبدالله العبدالعظيم بعد على رحيل ابنه الثاني محمد قبل أيام قلائل من دخول رمضان، فعبدالله دفن خلال عام واحد اثنين من أكبر أولاده جراء نوبة قلبية مفاجئة لهما، يقول بصوت متكسر: إن رمضان هذا العام طعمه مُرّ ولياليه كئيبة، لا أتمنى قدوم لحظة الإفطار لأبتعد عن لحظات بالأمس القريب غاية في السعادة حين كان ابناي محمد وحسين يجلسان إلى جانبي يقدمان لي ولأمهما الرطب والماء، وكأني اتصفح وجههما فأجد ملاح الشباب الطموح المؤمن، وإذا بهما يودعاننا هكذا دون استئذان، لا أتمنى لحظة الإفطار لكي لا أرى ألم وحزن الفراق على محيّا أمهما التي كانت تفيض مشاعرها سعادة وسروراً بهما عندما كانا يقفان إلى جانبها يعدان وجبة الإفطار ويقاسمانها المرح والفرح، وننعم بالجلوس جميعاً على مائدة السحور، لكن كل ذلك الجمال ذهب بعيداً، لذلك أنا حزين، لذا عمدت إلى تغيير مكان إفطارنا إلى موقع آخر لأبعد عن المكان الذي يثير ألمي ووجعي، لكنني أحمد الله سبحانه وتعالى على السراء والضراء.

جدي وجدتي

وتذكر ناجي حرابة -شاعر- ليالي رمضان وأيام الطفولة، مسترجعاً جانباً منها بشوق: كأني أستلُّ كتاباً مقدّساً من دُرج مكتبة قديمة، حينما أذكر في شهر رمضان المبارك جدي وجدتي -رحمهما الله-، لم تغب من عين ذاكرتي تلك الملامح، ولشهر رمضان معهما في قلبي ذكريات منحوتة، كان جدي يفرح بهذا الشهر كفرح الأطفال بيوم العيد، والقرآن الكريم صاحبه اللصيق، إذ يفتتح به يومه فلا نجلس إلاّ على صوت تلاوته، إذ كان يجلس على طرف الشارع قرب بيتنا يتلو الآيات وكأنه يريد أن يعطر بها المارّة، أمّا جدتي فتلك حديقة أخرى من الفرح والبهجة، كنا نصوم قبل سنّ التكليف وكانت ترغمنا على شرب قليل من الماء فرط خوفها علينا، كانت تشعل ليالي الشهر الفضيل هذا بشموع الحكايا والقصص ونحن حولها كالفراش المجذوب للضوء، رحم الله جدي وجدتي، وجعل الجنة منزلهما ومأواهما.

أماكن شاغرة

وقال فواز الحربي: ننعم هذه الأيام الفاضلة ببركة شهر القرآن والصيام والقيام، أتذكر بحزن ولوعة أخي الأكبر علي الذي كان الأب والموجه والمرشد، لم يكن أخانا الأكبر فحسب، بل كان الأب والموجه لنا، نتذكره ونتذكر مواقفه وشهامته ورجولته وكرمه، فمنه تعلمنا الكثير والكثير فهو لا زال أمامنا ومكانه لا يسد، مضيفاً: أستذكر من رحلوا وتركوا أماكنهم شاغرة وفارغة، فإننا نأخذ درساً بأن الدنيا ليست دار قرار وإنما دار ممر، وكلنا راحلون في يوم من الأيام لا محالة، فينبغي علينا التواضع والتسامح والبُعد عن الحقد والعدوات، فالدنيا قصيرة لا مجال فيها للتفريط.

أما مائدة أحمد الشخص فاستذكرت والدتها التي رحلت عن دنيانا خلال العام المنصرم، ووصفت رمضان هذا العام بـ"رمضان أمي"، مضيفةً: يحل رمضان ليفيض المولى علينا بنعمه وألطافه، ورغم هذه الفرحة والأنس الروحي هناك ما يكدر صفونا، ذكريات ممن كانوا يعيشون معنا هذه الأجواء، لهم ذكر لا ينسى وبصمات هنا وهناك، جاء رمضان ولم تأتِ معه أمي، فهذه صورتها وبصماتها وصوتها الذي يضفي راحة وطمأنينة في الدعاء وقراءة القرآن، ورائحة أطباقها المميزة والمنوعة الممزوج بروح الحب والعطاء، أتذكرها تقف في المطبخ ساعات لتقاسمنا هذه الأطباق دون فرق بين إخوتي وأخواني وجيراننا، أمي تعلمت منها الحب والتضحية ولمة الأهل، فكان لرمضان معها طابعاً خاصاً، ما أجمل فانوسها الرمضاني الذي يشع في رحاب مجلس عائلتهم الكبير وكتابها، أمي هي رمضان ورمضان أمي لتأثيرهما الإيجابي على سلوكي وروحي، رحم الله أرواحاً ونفوساً طاهرة عاشت نموذجاً وقدوة حيث كان رمضان يحلو معهم فنرى الترابط والتزاور دون تكلف أو مجاملة كم نحتاجهم في هذا الشهر الكريم لا حرمنا المولى من كل قدوة.