النحل: عملاق الطيران الصغير



يحيّرُك الخالق كلما تبحّرت في سِحرِ خلائقه، ولعل طرائق العيش المجتمعي وسلوكيات نحلة العسل من أكثر البواعِثِ على الحيرةِ للمتفكر فيها. وتبهرك نحلة العسل في قدراتها على تحويل السكريات الثنائية الى أحادية وقدراتها على جمع مكونات شفائية في العسل يعجز مهندسو الصناعات الغذائية وعلماء الصيدلة والطب على سبر أسرارها أو الإتيان بمثلها حتى الساعة.
إلا أن واحدة من أكثر سلوكيات النحل إبهاراً هي قُدرتهُ على الهبوط على أي سطح كان، وسيان كانت زاوية الهبوط، وكيفما كانت سُرعةُ الرياحِ. وباستطاعته أن يستقر على المستقر الذي يشاء حتى ولو كان مقلوباً رأساً على عقب، كالسطح السفلي لورقة الشجرة عند اتقائه حبات المطر، أو على بتلات الزهرات اليانعات المتدليات من الأغصان، فعلى الرغم من جمالها، إلا أن هذه الأسطح خطيرة عند الهبوط عليها بسبب اهتزازها وعدم ثباتها. وما أشبه هبوط النحلة عليها بهبوط طائرة على سطح الأرض لحظة حُدوث زلزال، أو بصعوبة ثبات لاعب الجمباز القافز من علياء على فرشة إسفنجية دون ارتداد؛ فكيفَ للنحلةِ أن تهبِطَ على الأسطُح الغضةِ غير الثابتة والمُتَمايلةِ مع كُل هبّة نسمة هواء وتهتز جراء هُبوطِ النحلة عليها؟! وكيف لهذه المخلوقة الصغيرة أن تتعلم الحِفاظ على توازنها بالرغم من حجم دماغها المتناهي الصغر؟! على عكس دماغ لاعب الجُمباز القادر على التفكير وحل المعاضلِ الجمة؟! وكيف لها أن تتفوق على الأجهزة الإلكترونية المُعقدة والعملاقة الموجودة في الطائرات؟! أوليست الطائرات العملاقة تتساقط متحطمة عند صغائر الأعطال؟! في الحقيقة، لقد أبهرت النحلاتُ الصغيراتُ علماء هندسة الطيرانِ وعلماء الميكانيك.
ولفهم تقنيات الطيران وبخاصة الهبوط لدى النحل استخدم عدد من علماء الفيزياء والميكانيك والطيران معدات تصوير متناهية الدقة والسرعة في إلتقاط الصور، حتى يتمكنوا من تحليل الخطوات التي تتّبعُها نحلات العسل لحظات الهبوط. وذهب العلماء إلى إختراع مَدَارِجَ هُبوطً تتباينُ في درجة إنحنائها من السطح الأفقي المستوي (زاوية صفر مئوية)؛ فمنحدر بزاوية قليلة وآخر قائم عامودي (زاوية قائمة 90 مئوية) وانتهاءً بسطح منقلب (زاوية 180 مئوية) كأنه ألجزء السفلي لسقف أو زهرة متدلية أو سطح سفلي لورقة شجرة. وقد عمد العلماء إلى تثبيت أزهار صناعية تفرز عصارات حلوة المذاق، وراقبوا وحللوا سلوك النحلات، فكانت النتائج مذهِلة للغاية.
لقد تبيّن لهم من مراقبة النحلات أثناء عملية الهبوط، أنها تتبع عدداً من الإستراتيجيات، حيث قامت النحلات أولاً بخفض سرعتها بصورة دراماتيكية قبل الهبوط، وصولاً إلى سرعة شبه ساكنة عند إرتفاع يقارب 16 ملمترا فوق السطح الذي ستهبط عليه، وهي المسافة بين محور مقدمة رأس النحلة ونقطة الهبوط على السطح؛ لتتحول بقُدرة قادر من طيران شبيه بطيران الطائرة العسكرية المقاتلة السريعة الى طائرة عامودية ساكنة الحركة ومعلقة في الهواء. تجدر الإشارة هنا إلى أن مسافة 16 ملمترا هي المسافة الكافية لجعل السطحِ في مُتناول قرون الإستشعار أو الأرجل أو كلاهما.
أما الخطوة الثانية- والتي قامت بها النحلات أثناء طيران التحليق الساكن فوق السطح، فقد تباينت مدة الطيران الساكن قرب السطح، حيث تبين أنه كلما زاد إنحناء السطح من الأفقي (أي من زاوية صفر مئوية) إلى العامودي (زاوية قائمة 90 مئوية) وإلى (زاوية 180 مئوية) مقلوب (أي السطح السفلي للهدف)، زادت مدة التحليق الساكن فوق السطح، حيث كانت المدة اللازمة قبل الهبوط على الأسطح الأفقية أقصر من على الأسطح العمودية وكانت أطولها على الأسطح المقلوبة.
وفي الخطوة الثالثة- وهي ملاسمة جسم النحلة للسطح المراد الهبوط عليه، فقد تباينت عمليات الهبوط أيضا بتباين مقدار انحناء السطح، حيث كانت تبدأ عملية الهبوط في الأسطح العامودية والمقلوبة بإقتراب قرون الإستشعار من السطح المراد الهبوط عليه، لتليها بعد ذلك الأرجل الأمامية فباقي الأرجل، إلا أن المدة بين ملامسة قرون الإستشعار للسطح وبين ملامسة زوج الأرجل الأولى للسطح تزداد كلما زاد الإنحناء عن 140 درجة مئوية، وصولاً الى أطول مدة في حالات الأسطح المقلوبة. أما في الأسطح الأفقية فقد كانت الأرجل الخلفية هي التي تلمس السطح أولا لتتبعها باقي الأرجل، وهي حالة شبيهة بهبوط الطائرات، حيث تنزل العجلات الخلفية أولا ومن ثم الأمامية، لكن هبوط النحلة أدق من هبوط الطائرات، كون ذلك لا يحتاج إلى مدارج طويلة كحال الطائرات النفاثة، بل هو شبيه بهبوط الطائرات المروحية، كما ولا تؤدي قرون الإستشعار دورا مباشراً في الهبوط وملامسة السطح.