أبواب - سامح المحاريق - كان العمل في البداية أداة وجود، فمن خلال العمل تمكن الإنسان من التعايش مع مخاطر الطبيعة، ولم تكن نزعة العمل قائمة على أي نوع من الحوافز التي تخرج عن إطار صراعه الوجودي، وكان الجميع تقريبا يعملون من على نفس الأرضية، وينظرون إلى الاتجاه ذاته، وحدهم من كانوا ينظرون تحت أقدامهم اكتشفوا أن الأرض التي يقفون تمتلك أهمية في حد ذاتها، وبينما كان العمال الأوائل منشغلين بالمقاومة والبقاء، كان من نظروا إلى الأرض يضعون قواعد لعبتهم الخاصة، وبدلا من الدفاع عن وجود الجماعة، بدأوا يدافعون عن وجودهم الشخصي، وفي مرحلة متقدمة، أيقن الإنسان أنه لا يستطيع أن يستمر في حالة الصراع، وأن عليه أن يبحث عن حلول جديدة، ولذلك بدأت رحلة تقسيم العمل، ولأن البعض كانوا أكثر حنكة، فإنهم رأوا أن بإمكانهم التملص من واجبات العمل، وذلك من خلال وضعهم في المعادلة عوامل أخرى ضرورية من أجل أن يبني الإنسان ما يحتاج إليه، وأن يحصل على أمانه، البعض تمكن من إقناع الآخرين بأنه يمكنه حمايتهم بينما يتفرغون هم للعمل، وآخرون، بصناعة الأدوات فظهرت العجلة والرافعة، وبذلك بدأت الإنسانية تعيش حالة الإنفصال بين جهد العمل وموضوعه، بما يعني أن الشخص لم يعد يعمل من أجل نفسه، ولكن من أجل أهداف أخرى تحددها جماعته، ومع توسع الجماعة اختفت البراءة الأولى في لعبة العمل تلك التي كانت تكفلها القرابة العائلية، وأصبحت القبيلة تحتوي على تنظيم واسع ومتقدم قياسا بالجماعة الإنسانية الأولى.
من شكلوا القبيلة ووضعوا قوانينها وأنظمتها عادة ما كانوا الفئة التي تفرغت للحماية، ورأت أنها أصبحت من حيث المبدأ تمتلك الأرض وما عليها، فالعمال ظلوا كدحهم يعتقدون أنهم يعملون لأنفسهم ولوجودهم الآمن، ولكن اللعبة تغيرت، فالعامل أصبح يعمل لغيره، وأصبحت أمامه أهداف وأولويات يحددها الآخرون.
المدينة كانت مجموعة من الأطياف وشتات القبائل، وكانت تحتاج إلى كثير من العمل لمجرد الوجود، وحتى أن العمل نفسه أصبح أحد أدوات السيطرة على الجموع، فالعامل يجب الا يحظى بوقت الفراغ، لأنه لو حدث ذلك، فإنه سيبدأ في تفكيك الوضع، واستنتاج مدى الظلم الذي يحيق به، والحضارة الإنسانية التي تدين بفضل وجودها لفكرة العمل، واصلت باستمرار ودون رحمة عملية سحق العمال، فحتى عندما نجحت جموع العمال في الوصول إلى الحد المناسب من الرقي وتأسيس البنية التحتية الكافية، فذلك لم يكن مدعاة لأصحاب العمل من أجل استغلال ثمار العمل لمصلحة الجميع، ففي مصر القديمة، من الخطأ أن يعتقد أي شخص أن بناء الأهرامات أتى لأسباب دينية، أو حتى مجرد نزوة يمليها غرور الحاكم وبطشه، فالقصة كانت أمنية بالمرتبة الأولى، العمال يجب أن يظلوا على حالهم وإلا فإنهم سينصرفون للبحث عن العدالة والمساواة، ومراجعة فكرة تملك القلة القليلة لكل شيء، بينما يرضخون لعقل غير مرئي تحرسه طبقات من الكهنة والمنتفعين.
هتلر مثلا، أعاد إنتاج فكرة توظيف العمل على الطريقة الفرعونية القديمة، وكان المخرج أمامه يتمثل في توظيف جميع الطاقات الألمانية بجنون لإنجاز مشروعات تتجاوز حاجة ألمانيا، والإنخراط في حركة صناعية هائلة، ولذلك كانت الحرب ضرورية، وليس كما يتخيل البعض مجرد عوارض مرض نفسي لرجل يمكن أن يوصف بأي شيء إلا الحماقة.
المدينة البرجوازية في هولندا وبلجيكا العصور الوسطى كانت تسعى للخروج بمعادلة جديدة، تريد إزاحة العالم القديم، والاعتماد الكبير على الزراعة التي تحتاج إلى فترات طويلة من أجل تحقيق الأرباح، ولكن العبيد، العمال سابقا، يجب استدراجهم من الحقول ليدخلوا في المشاغل، حصلوا على حرية نظرية، فصاحب المزرعة لم يعد يمثل بالنسبة لهم إلها صغيرا، أو نائبا عن الإله، ولكنهم خضعوا لعبودية المال والحاجات الأساسية، وكان متوسط ساعات العمل في هذه المناطق في العالم يدور حول 16 ساعة، في ظروف سيئة، فصاحب الورشة يريد الإنتاج بأقل تكلفة، لا تهوية ولا مساحة كافية، وبالطبع كان الحديث عن الإجازات أو فترات الراحة يعد بمثابة التجديف والكفر.
العمال بدأوا يتيقظون للخديعة الكبرى، وكانت رغبتهم صادقة لإنقاذ الإنسانية من وضعها المرعب في القرن التاسع عشر، وهو ما استلزم إضافة إلى ثوراتهم حربين عالميتين كبيرتين، فأدرك العمال أن تاريخهم كعبيد كان يوفر لهم الطعام وسقفا يلتمون تحته، ولكن المدينة فإنها ستتركهم في العراء دون لقمة صغيرة إذا ما أصابهم المرض نتيجة الإنهاك من العمل، أو الظروف الرديئة التي يعملون فيها، ولذلك بدأت النضالات من أجل الحصول على بعض الحقوق الأساسية، فالعامل بحاجة إلى بعض الراحة، إلى الوقت، إلى غاية من الحياة، إلى رؤية أبعد من مجرد بقائه مثل الخيول التي تجر العربات، ولكن هذه الحقوق الأولية احتاجت آلاف الشهداء والأبطال.
بالطبع لم تكن ثورة العمال ممكنة دون وجود المعرفة، فجوتنبرج الذي قدم للإنسانية المطبعة في نهاية العصور الوسطى، كان يلقي بطوق النجاة لمئات الملايين، اطلع العمل على الإنجيل، وبدأوا يعرفون أن المسيح يختلف تماما عن ذلك الذي تسوقه الكنيسة في تواطؤ مريب مع أصحاب المال والسلطة، وعلى ذلك الأساس بدأت احتجاجاتهم، فالمسيح صلب من أجل الحرية والعدالة، وعلى الإنسانية أن تعيد له الأمانة الكاملة.
الوضع في الشرق لم يكن على هذه الدرجة من الرعب، صحيح أن العبودية كانت تسيطر على منظومته الحضارية، ولكنها بقيت في حدود معقولة يكفلها الإيمان بمعتقدات الدين الإسلامي، وكان القرآن الكريم المتداول شفهيا بين الناس، وعلى بساطة الإيمان القائم على الفطرة، فإنهم أفلتوا من مصير العمل المأجور على النمط الغربي إلى حين، ولكن الاستعمار والرغبة في التوسع صدرت إلى الشرق جميع أنماطها الاعتقادية، وظهرت فئات العمال في مدن الشرق، وبعد العمل الحر الذي يجمع أصحاب الكار تحت سلطة شيخهم الذي تتراوح شخصيته بين المسالمة والطغيان، كانت أمورهم تنتظم وتجري السفينة، ببطء نعم، ولكن بثبات.
الشرق الذي اندفع إلى الصناعة أرهق في وسط الطريق وسقط، مرة مع محمد علي، وأخرى مع عبد الناصر وآخرين، لأن قيم العمل الغربية كانت غير قابلة للتصريف في الحضارة الشرقية، وكان سقوط المشروع الصناعي على النمط الغربي يرمي الشرق خارج حلقة الإنتاج الزراعي، فيحوله إلى كيان عشوائي، وكان العمال الذين فشلوا في العودة إلى مزارعهم يبدأون حفلة الرعب مع العشوائية ومدن الصفيح التي بدأت تزنر المدن الكبيرة في العالم العربي.
الأفندية كانوا طبقة أخرى، وظهرت ليس لأن الإدارة العامة تحتاجهم، ولكن لأن الفائض في العمالة الذي أفرزته الماكينة البخارية ألقاهم على قارعة الطريق، وبعضهم كان يتصف بالذكاء والنباهة نتيجة المعرفة التي أصبحت شائعة، ولكن ذلك لم يكن كافيا ليرفعهم إلى مرتبة أصحاب الملكية، وبدأت حلقة جديدة من العمل، فالمنافسة الكبيرة على الإنتاج أفرزت أيضا ظواهرها الخاصة، وبدلا من السوط القديم، أو التخويف بالفاقة والحرمان، أخذت الكفاءة والفعالية وغيرها من المصطلحات تؤدي الدور ذاته.
الوضع اليوم أفضل كثيرا، ساعات العمل محدودة، والأجور مربوطة بحد أدنى، وأيام العطلات أصبحت كثيرة، صحيح أن الاستغلال ما زال قائما، وأن العبودية تعيد إنتاج نفسها في كثير من الأماكن، ولكن مجرد الوصول إلى هذا الوضع الذي نعيشه اليوم تطلب آلافا من الشهداء، سواء الذين سقطوا من الإعياء في الورش الصغيرة، أو التهمتهم الأمراض نتيجة تغيب الرعاية الصحية في مدن القرن التاسع عشر الصناعية، أو حتى من حصدتهم رصاصات الشرطة التي عبرت حصرا وانحازت إلى أصحاب العمل الذين يدعمون الأحزاب السياسية في لعبة الديمقراطية.
شكرا لجميع العمال، لكل ما بذلوه من عرق ودموع ودماء، وشكرا للعقول التي تزعمت ثورتهم لتذكرهم بأن القضاء والقدر شيء، والاستكانة والخضوع شيء آخر تماما، وشكرا لمن حملوا المعرفة، وتحملوا النبذ والطرد والنفي والسجن من أجل الاحتفاظ بجذوتها مشتعلة.