سامح المحاريق - الأبطال ليسوا الذين يعتلون المنابر، أو يخطفون الأضواء والكاميرات، ليسوا بالتأكيد الأعلى صوتا، فهذه مسألة تختص بها الحبال الصوتية، وفي الغرف المكيفة والاستديوهات التلفزيونية يمكن إدعاء جميع أنواع البطولة، ولكن البطولة الحقيقية تظهر في أماكن أخرى، بعيدة عن الضوء والجلبة، بطولة في حالتها الخام الأصيلة في الإنسان من خلال جيناته وتربيته، أما البطولات التلفزيونية فهي تعتمد على الموقف والفرص التي أتيحت للشخص، وليس على تكوينه النفسي والأخلاقي، فتكون بطولة مستعارة وأحيانا ملفقة ومثيرة في أوقات كثيرة للضحك والسخرية.
عمر البلاونة اسم تداولته الصحافة والإعلام في اليومين الماضيين بكثرة، شاب أردني أسمر بجسد ممشوق، وملامح طيبة وعينين تمزجان الطيبة والرضى مع الإصرار والجرأة، دفعته متطلبات واجبه لأن يكون في ملحمة إنسانية استمرت لأكثر من عشر ساعات معلقا بين الحياة والموت في البحر الميت بينما الطائرات والزوارق تحاول الوصول إليه مع الأطفال الذين أنقذهم من الغرق، وكانت الظروف تدفع الوضع إلى ذروته، وهو يلقن الطفلين ما يتوجب عليهما فعله إذا لم يتمكن من البقاء على قيد الحياة، وحتى عندما طالبته الطفلة التي يراها للمرة الأولى في حياته بأن يعود سباحة وينجو بنفسه، فإنه رفض ذلك، وقال كيف أنجو أمام الله إن تركتكما.
عندما أسماه والده عمر فالبتأكيد كان يستحضر الصحابي الشهيد، ثاني الخلفاء الراشدين، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن الأسماء نادرا ما تلتقي مع الأمنيات إلا في حالات نادرة، وكان البحر الميت ينبىء والده فلاح بأن عمر لم يخيب ظنه، وكان رجلا بكل ما يحمله ذلك من معنى في تقاليد العرب.
كان عمر البلاونة يعرف أن أحدا لن يشهد على تقصيره في الواجب لو حدث، ولا يمكن لأحد حتى أن يلومه، فطاقة الإنسان محدودة، وكثير ممن سيفتخرون منه، لا أعتقد أنهم كانوا ليتخذوا نفس موقفه، وقبل أن تأخذ أحد الحمية ويقول بأن ما فعله عمر هو أمر اعتيادي وضمن واجبه، عليه أن يعرف أن ما فعله مسألة تتخطى المثالية، وتطرح نفسه لمرحلة ما يفوق الإنساني.
بالطبع، عمر واحد من عشرات الآلاف مثله، يستحقون منا الاعتراف الكبير بفضلهم ودورهم في أن تمضي حياتنا بهدوء، بينما تقرأ الصحيفة، أو تتصفح الموقع الإلكتروني، وبينما أكتب الآن، فإن هذه الفئة من أبنائنا تقف تحت الشمس وتسهر الليل لتقوم بواجبها في حماية الحاضر والمستقبل.
إن عمر لم ينقذ فقط طفلين، ولكنه أنقذ جميع أطفال الأردن بأن أوصل رسالة تطمئننا بأن رجالا على قدر المسؤولية متواجدون في كل مكان، صحيح أنهم متعبون، يحلمون بأن تكون لهم أسر صغيرة، ويبحثون عن قرض لتمويل أحلامهم البسيطة، ويحاولون أن يؤمنوا فرصة للتعليم الجيد لأبنائهم، ولكنهم في الوقت المناسب يضعون كل ذلك خلف ظهورهم ويتذكرون واجبهم.
عمر حصل على نمط غير معهود أو مألوف من الشهادة، فهو عرف في لحظة ما بأن الله وحده يشهد عليه، وكان ذلك يكفيه من الدنيا، لسنا مطلين على ظروفه الاجتماعية أو مسؤولياته، وذلك ليس من حق أي أحد، هذه خصوصيته، كما أننا لا نعرف تفاصيل القوانين العسكرية الناظمة، وعلى الرغم من أننا نحترمها لأنها تشترك في صناعة العقيدة القتالية لأبنائنا ورجالنا، إلا أن الترقية إلى رتبة الوكيل هي دون ما يستحقه البلاونة، فهو يكمل اليوم القوس الذي افتتحه الشهيد معاذ الكساسبة ونضع بين القوسين تفرد الحالة الأردنية وخصوصيتها.
الثلاثاء 2015-03-31