أبواب - إبراهيم كشت

من عبارات الزجر الشهيرة التي كنا نسمعها على نحو معتادٍ ومتكرر من معلمينا أيام المدرسة ، عبارة كانوا يوجهونها للتلميذ الذي يكثر من الجدل ، أو يعترض على فكرة ، أو يُعقّبُ باستهزاء ، بقولهم له باللفظ العاميّ الحاسم : ( بلا فلسفلة وقلّة حيا ..! ) . وما زلنا حتى اليوم نصف في أحاديثنا العادية الدارجة ، الشخص الذي يتحذلق ، ويتكلف إظهار بارعته في الحديث بموضوع معين ، بالقول إنه : (يتفلسف) ، وكثيراً ما ننهى محدِّثنا عن محاولة تحوير الحقيقة الواضحة من خلال التلاعب بالألفاظ ، أو ننهاه عن طول الحديث الذي يفتقد إلى المنطق ، فنقول له : ( بلا فلسفة .. ! ) ، وقد نستمع إلى محاضرة أو ندوة لا تعجبنا، أو نقرأ مقالة لا تروق لنا ، فنصف مضمونها بأن نقول : ( كلها فلسفة وحكي فاضي..! ) .

نظرتنا إلى الفلسفة ..
ولكي أؤكد ملاحظاتي حول اقتران (الفلسفة) في عباراتنا اليومية المحكية بجوانب سلبية مثل (قلة الحيا ، والكلام الفاضي ، والحديث المتكلف ، والتنظير غير المجدي ... ) فقد بحثتُ عن كلمة (الفلسفة) ومشتقاتها مقترنة بالألفاظ والمعاني السلبية المتقدمة ، من خلال مؤشر بحث (جوجل) باللغة العربية ، فوجدتُ أنه اقتران موجود فعلاً ومتكرر ، وبخاصة في الردود المتبادلة بين من يتجادلون في منتديات الانترنت ومدوناته ، بل وجدت من العبارات ما ينعت الفلسفة بشكل مباشر بأنها (كلام فاضي) .
ولئن كانت الكلمات المحكية الدارجة ، التي نستخدمها بشكل عفوي ، تحمل في كثير من الأحيان تعبيراً عن موقف وجداني واتجاه عقلي نحو موضوع أو قضية أو فكرة ، فإن العبارات المتداولة بين عامة الناس في المجتمعات العربية ، تحمل دلالة – أو على الأقل مؤشراً – على موقفهم النفسي والفكري من الفلسفة ، وهو موقف يبدو سلبياً ، يقرن الفلسفة بسوء الأدب (قلة الحياء) ، وبالقول الذي يفتقد للمعنى والمضمون (الكلام الفاضي) ، ويفهم التفلسف على أنه تشدّق وتكلّف وجدل عقيم .

الفلسفة وعمق التفكير ..

لقد تداعت إلى خلدي الأفكار المتقدمة ، عندما لاحظتُ ، مجرد ملاحظة شخصية ، أدعو القارئ لتحري صدقيتها ، أقول لاحظت أن المهتمين بالفلسفة ، أو المختصين بها ، أو المطلعين عليها ، إذا تحدّثوا في موضوع أو عرضوا لفكرة كانوا أكثر عمقاً ، وأقرب لتبني المنهج العقلاني في التفكير ، وأبعد عن الضحالة المتأتية عن التقليد وتداول الأفكار الجاهزة المكررة المألوفة ، وأَحْرَصُ على سلامة العلاقة بين الألفاظ ومعانيها ، والصلة بين المفاهيم ودلالتها ، وهي صلة كثيراً ما تكون مشوّهة ، أو مقطعة الأوصال ، في الأحاديث والأفكار السطحية ، فيما نسمع في المجالس والصالونات ، بل ومن وسائل الإعلام .

لماذا غابَ ألقُها ..؟
لكن لماذا غاب ألق الفلسفة ، وبات الموقف منها سلبياً إلى حد ربطها بمعان تناقض جوهرها ، ولماذا غاب تدريسها عن المدارس والجامعات ، رغم دعوات متعددة أطلقها مفكرون وتربويون بضرورة إدخالها – أي الفلسفة – في المقررات الدراسية . أليست الفلسفة هي من هدى البشرية إلى مناهج التفكير السليمة التي قادت لتقدم العلوم والتكنولوجيا ؟ آلا تمثل الفلسفة وعياً بوجودنا ووجود ما حولنا ، وبحثاً عن معنى لهذا الوجود ، ومعرفة بماهية الأشياء وحقيقتها ؛ لفهمها وتغييرها وتطويرها ؟ أليست الفلسفة هي من يعلمنا أساليب التفكير الصحيحة ، وينأى بنا عن التفكير الرديء ، ويدفعنا إلى الاهتمام بما له قيمة ، بدل التوجّه نحو السفاسف والتوافه ؟

الفلسفة تعشقُ الحُرّية ..
ربما كان من أسباب الموقف السلبي من الفلسفة ، السائد لدى الكثيرين ، وعدم التجاوب مع الدعوة لإدخالها في المناهج الدراسية ، أنها – أُعني الفلسفة - تدعو للتفكير بأي شيء ، ونقد أي فكرة ، والشك في كل ما يبدو مفروغاً منه ، وإثارة الأسئلة حول كل مقولة ، والدهشة مما يُعدُّ مألوفاً ، لذلك فهي بحاجة إلى مناخ من حرية التفكير والتعبير ، وبالتالي فإنها لا تتناسب مع جوِّ القمع ، وتعدد الخطوط الحمراء .

أضف لما تقدم أن الفلسفة ، والبحث فيها ودراستها وفهمها ، والاهتمام بها ، لا تعطي نتائج فورية آنية مباشرة ملموسة ، وإن كانت تترتب عليها آثار ذات أعماقٍ وآفاقٍ مهمة في الحياة الإنسانية ، وذلك على مستوى صواب التفكير ، ومعرفة المناهج الصحيحة ، والارتقاء بالاهتمامات ، وفهم الوجود وعناصره وعلاقاته ، والتركيز على مفاهيم القيم الإنسانية والأخلاقية وأبعادها وتجلياتها ، وإضفاء معنى على الوجود ، إضافة إلى تلبية دافع الفضول والاكتشاف ، ودافع الاتساق المعرفي لدى الإنسان ، والدافع الغريزي لفهم الأشياء والعلاقات وما تخضع له من قواعد ، وما تنضوي تحته من نظم وانساق . إلاّ أن كل هذه الآثار ، وسواها مما تحققه الفلسفة من جوانب ايجابية في حياة الفرد والمجتمع والإنسانية ، قد تغيب عن انتباه الكثيرين ، لأنها ليست آثاراً مباشرة قريبة ملموسة .

تبسيط أسلوب العرض ..!
لكن ، لكي نكون موضوعيين قدر الإمكان ، ربما ينبغي أن نعترف بأن الطريقة التي تُعرَضُ بها الفلسفة من خلال ما يكتب فيها أو يقال ، ما تزال فيها نسبة عالية من الجمود والعسر ، مما قد يستعصي فهمه على الشخص العادي ، وهذا ما يستلزم من الفلاسفة، والمهتمين بأمر الفلسفة ، شيئاً من التبسيط ، وشرح المعاني ، وتسهيل أساليب الخطاب ، والإكثار من الأمثلة الواقعية المتحركة الحيّة ، التي تجعل جوهر الفلسفة ومضمون مذاهبها وموضوعاتها أقرب الى النفوس والأذهان .


الاحد 2015-03-15