نتلقف مبسم كل صباح إشاعة ، ندحرج بها أوقات فراغنا مثل كرة ثلجية، تنحدر من مكان عال، وتأخذ النمو ، وتكبر، وتكبر، حتى تصبح كائناً عملاقاً لا نملك أمامه إلا أن نصدّقه، ثم نشيّعها في المساء إلى مثواها قبل الأخير، لنستقبل في صباح اليوم التالي إشاعة جديدة، نتلاقفها بسواعدنا ونحملها على أكتافنا فكرة، ثم لا تلبث أن تغدو جثماناً محمولاً في نعشه قبل الأخير، لتمرّ أيام وربما أسابيع أو أشهر ونعيد نبش قبور ذاكراتنا ونعيد إلى الحياة إشاعة قديمة، نعيد ترديدها مثل ببغاوات، ونجترها اجتراراً حتى لا نملّ من ترديد الإشاعات وتناقلها.
تتنوع أشكال إشاعاتنا اليومية، بتنوع فناجين قهوة الصباح، فنستقبل إشاعة سياسية عن وطن بديل، لا وجود له إلا في مخازن الذاكرة المهددة بالخوف الساكن فيها، ونودّع إشاعة اقتصادية، تتعلق بدخل الفرد، أو بزيادة شهرية على الراتب
أو اقتطاع مفاجئ بدل خدمات واتس أب ، ونبدأ برسم رسوماتنا البيانية الوهمية لمنحنيات الارتفاع والانخفاض في حجم الاقتطاع، هذا بعد أن نسلّم بوجوده أصلاً. ونشيّع إشاعة إدارية تتعلق بنقل شاغل وظيفة عليا في وزارة، أو قبول استقالة وزير، أو إلغاء مسمى مدير. ثم تتعملق إشاعاتنا بحجم الصالونات السياسية لنتناول فكرة استقالة حكومة، أو رحيل مسؤول من طراز رفيع، وتبدأ بورصة البدلاء.
هناك مناخات حافزة للإشاعة في صالونات ولائمنا، وفي ردهات مؤسساتنا، وفي مقاهي شبابنا، ودكاكين كهلتنا، وعلى طاولات (الشدة) والنرد والسيجة، وهناك مناخات حافزة بشكل أكبر في معتقلات ذاكراتنا، منها ما هو مبرر إلى حد ما انطلاقاً من نظرية (جس النبض) التي جرت العادة على استخدامها في حالات معينة، وكثير منها غير مبرر ولا مسوّغ، إنما تلوكه بنات أفكارنا في سهرة حفلة ميلاد ابن وجيهٍ معروف. وهناك مناخات إعلامية حافزة للإشاعة، لا تبدأ بكثير من فضائياتنا، ولا تنتهي بكثير من المواقع الإلكترونية وزواياها المخصصة للهمس بصوت مسموع، مروراً بأدوات الإعلام الاجتماعي التي تصدّر كل يوم فائضها من الأفكار المستهلكة التي تحتاج إلى إعادة تصنيع وإنتاج في مصانع الإشاعة البشرية، وتعجّ برسائل تنتهي باستحلاف بالله تعالى لنشرها، للحؤول دون وقوع مكروه لمن تتوقف الرسالة عنده.
محزن جداً أن نقلقل سكون دولة بمؤسساتها وافرادها ومجتمعاتها بإشاعة، تمخر عباب الماء، وتنخر حيطان المنازل، وتحلّق في سماءات وطن، يستطيع أن يستمر في مسيرته بسلام وثاقب رؤية دون حاجة إلى قلاقل وإشاعات لا نجني منها إلا الفزع والقلق ونحن نراكم الخبز وعلب السجائر تحسباً لانقطاعه من السوق، أو استباقاً لموجة غلاء ستجتاحه، أو نكدّس (سحاحير) البندورة استباقاً لتصديره إلى دولة مجاورة على بساط إشاعة حقيرة لولا أن كباراً اشعلوا فتيلها وتلاهم كبار في ترديدها.
لا سلاح في مواجهة الإشاعة مثل سلاح الوعي، نحكّم العقل ونراهن على نموّ الفكر واتساعه، وعمق الرؤية، وواسع التجربة، لا أن يكون نظرنا محدوداً قصيراً على مرمى حجر، بل نفكّر بعمق قبل أن نقع في فخ التقليد الأعمى، والترديد اللاواعي للإشاعة، فنسهم في تناقلها في الوقت الذي يحتّم علينا فيه المنطق والعقل أن نوقف قطارها العابر للمحافظات والدوائر والصالونات والعقول. علينا أن نعي أن هذا العقل الذي وهبنا الله تعالى إياه وميّزنا به عن سائر المخلوقات، ليس مجرد آلة ميكانيكية، إنما هو مساحة للتفكر والتمعن، والتدقيق، في كل ما يصل إليه من مسموعات. وعلينا أن نتبيّن إن جاءنا فاسق بنبأ، وإلا ألقينا بأنفسنا والوطن إلى التهلكة.
عن الراي
رد مع اقتباس
المفضلات