عرف العالمُ تطوُّراتٍ كبيرةً في شتّى المناحي، وفي المجالات العلمية بالخصوص، وكان لهذه التطورات السريعة
انعاكاساتٌ كبيرة على الإنسان وأفكارهِ ومنتجِه العلميّ والأدبي أيضاً، ولعلّ أدب الطفل لم يسْلم من هذا المدّ التكنولوجي الرهيب، فبقدر ما استفاد من سهولة التواصل والتوصيلِ بين الأديب والطفل، تقلَّص حجم المقروئية لدى الأطفال الذين يفضِّلون المشاهدة والقراءة السمعية البصرية على القراءة الحَرْفية، ومن هنا نجد أنفسنا منطلقين من عدّة إشكاليات تسيِّج هذا الواقعَ الخطير بين أدب الطفل وهاجس التكنولوجيات الحديثة:

- ما واقع أدب الطفل في ظلّ اكتساح البدائل التكنولوجية لعوالم الطفل وتوافرها الكبير؟

- ما الأسباب التي رجحت كفةَ المنتَج التكنولوجي الموازي -من رسوم متحركة وأفلام كرتونية – على حساب النصّ
المكتوب أو الافتراضي؟

- إِلامَ تعود أسباب هذا العزوف عن تلقّي أدب الأطفال ونقص المقروئية فيه ؟

- هل التكنولوجيات الحديثة وما تمنحه من إغراء جمالي، وسهولة في التوصيل والوصول إلى الطفل مشجبٌ كافٍ
لمن يبرِّر لانحصار أدب الطفل في دوائر تعليمية وثقافية قليلة جدّاً ؟

- ما الطرق الناجعة لاستثمار التكنولوجيات الحديثة في تطوير أدب الطفل ونشره كي تواكب الكتابةُ للطفل هذا التطوُّرَ المذهل، وتكتسح المنابر التكنولوجية المعاصرة على اختلافها؟.

يجدر بنا في البداية أن نعترف بأن أدب الطفل، ومنذ ظهوره في المحاضن الغربية وهجرتِه إلى الأوطان العربية عَبْر نماذج رائدة، حاول مقاربةَ عوالم الطفل بالاستبطان والتصوير والإحاطة والتلقين أيضاً، وقد انتشر كثيراً في المكتبات
ودورِ النشر والدوائرِ التربوية، ودخل إلى التخصُّصات الجامعية والبحوث الأكاديمية. وبِغَضّ النظر عن المستويات الفنية للمنتج الأدبي الطفولي وتفاوتاتِها من كاتب إلى آخر ومن شريحة إلى أخرى ومن وطن إلى آخر، فإن هناك عوائقَ كثيرةً واجهت تطوُّره منها قلة الاهتمام بأدب الطفل من جهة، والميل كل الميل لأدب «الكبار» الذي جعل كتّابَ هذا النوع من الأدب ينعزلون وينسحبون من جهة أخرى.

كما أن لغياب ثقافة الكتابة للطفل ووعيِ تعويد الطفل على القراءة والاطِّلاع خارج ما هو مقرَّر مدرسي، انعكاساتٍ كبيرةً على أدب الطفل، وربما عاد السبب إلى مضامين النصوص الموجَّهة إلى الطفل وعدم تماشيها وتطلُّعاتِ الطفل ورغباته وتوقُّعاته، وهذه الأسباب لعلَّها لمّا اجتمعت استغلَّتها التكنولوجياتُ الحديثة التي رُبَّما استثمرت أيضاً في المنتج الأدبي الموجَّه إلى الطفل، وحوّرته مع الصوت والصورة. والدليل أن كثيراً من قصص الأطفال التي لم يكد يقرؤها القليل من الأطفال قد لاقت نجاحاً ومشاهدة واسعين جداً لمّا تحوَّلت عبر وسائط تكنولوجية إلى رسوم وأفلام كرتونية بتقنيات مبهرة.

ولكن، أليس من الضعف الاعتقاد بأن عصر الصورة قد سيطر على المتلقي –المشاهد الصغير تماماً كما أخذ بألباب
الكبار، وأن هذا ما جعل أدبَ الطفل في الدائرة الحمراء إنتاجاً وقراءةً مقارنة بما يتابعه الطفل، وما يصرفه من وقته
حتى سيطرت المشاهَدة على القراءة؟

وزيادة على المزايا الكبيرة لاستثمار التكنولوجيات الحديثة وفتوحاتها في النهوض بأدب الطفل من خلال تحويل نصوصه إلى المجال السمعي البصري، فإن النشر الافتراضي عبر الإنترنت للنصوص الأدبية الموجَّهة إلى الطفل قد يساهم في إعادة الوهج اللافت لأدب هذه الشريحة، حيث لا ينكر المتابع للفضاء الافتراضي حضوراً لا بأس به للمنابر المشتغلة
على نشر نصوص أدبية للأطفال رغم ما يعتري كثيراً من هذه المواقع والمجلَّات والمجموعات الافتراضية من عدم احترافية وانعدام للتخصيص الأجناسي بين شعر وقصص كُتِبت للأطفال.

كما لا يمكن غضّ النظر عن أن كثيراً من المدوّنين والمشتغلين على النشر الافتراضي لأدب الأطفال على الشبكة العنكبوتية لم يولوا اهتماماً كبيراً لتأثيث هذه النصوص الأدبية بمرافقات وتسييجات جمالية أخرى من شأنها أن تجذب
انتباه الطفل، وتساعده في الولوج إلى عوالم النصّ المقروء، ونقصد؛ افتقاد كثير من هذه المدوَّنات إلى صور مرافقة
للنص المنشور والتي من شأنها أن تعوِّض المتلقّي الصغير عن إدمانه على المشاهدة السمعية البصرية، وتعوِّده على القراءة البصرية بخطاب مزدوج: خطاب لغوي متمثِّل في النص المكتوب، وخطاب غير لغوي وهو الصور المرافقة
التي تساهم في تخييل الوقائع لدى المتلقّي الصغير. ولكن، بقدر ما تكون لهذه الصور المرافقة أدوارٌ في صناعة خيال الطفل فإنه يمكنها أن تؤثِّر على تخيُّلاته وتوقُّعاته لأن للطفل أيضاً أفقَ توقُّع للنص المقروء خاصّة للنص القصصي.
ونحن ندري أن الطفل في كافة مراحل عمره يعشق السرد والحكي، ويحبّ تسريد الأحداث التي يراها والتي يعيشها.
ولعلَّ ورشات تعلُّمية – تعليمية كثيرة في مخابر علمية تابعة لدوائر حكومية، وخاصة بَيَّنَت أن القراءة الأولية للنصوص الأدبية لدى الأطفال تعتمد على الصور المرافقة وأن الأطفال في إجاباتهم عن كثير من أسئلة النصّ كانت مستوحاة من الصور المرافقة، حيث يستلهم التلميذ إجاباته من قراءته البصرية للصور المرافقة للنصّ المكتوب.

كما يمكننا الإشارة في الأخير إلى أنه يتوجَّب على المهتمّين بإعادة الوهج والأهمية لأدب الأطفال أن يعملوا جاهدين على تهيئة فضاءاته المساعدة على قراءة هذا الأدب سواء أكانت فضاءاتٍ افتراضية أم كانت واقعيةً كالمدارس والمكتبات ودور الثقافة والبيت بالخصوص، كما يتوجَّب عليهم أيضاً الاهتمام بأدب الطفل من الداخل من حيث مضامين النصوص التي
يجب أن يراعي كُتّابُ أدب الطفل مناسبتَها ومواءمتَها للبنية النفسية والوجدانية للطفل، وهذا- في حَدّ ذاته- يفرض على الأدباء أن يكونوا ملمّين بعوالم الطفل بدرجة كبيرة.

ومهما يكن من فتوحات تكنولوجية ومن حجمِ هواجسنا من مدّها الجارف لعوالم الكتابة والإبداع للطفل بالخصوص فإنه يمكننا استثمارُها وتحويرُ فوائدها لصالح انتشار النص الأدبي الموجَّه إلى الطفل، كما لا ينبغي أن نفضِّل- ولو للحظة- قراءةَ النص إلكترونياً – افتراضياً على القراءة الورقية لأن للكتاب والقصص الورقي خصوصيّاته الكامنة التي لا ينبغي لكل البدائل التكنولوجية الحديثة أن تلغيها.

منقول