يعتقد الكثير من المتابعين والمشتغلين بالحقل الأدبي عموماً أن صناعة أدب خاصّ بالطفل سهلة وممكنة، في ظل وضع التصوُّرات التقليدية العامة من أنه الأدب الذي ينبني على عالم سحري، ويعجّ بالمخلوقات الغريبة، حيث تكثر الألوان والصور.
إنه أدب يُكتَب وفق مقاسات خاصة ولشرائح معيَّنة. ولكنها نصوص عويصة ومركّبة، ويمكنها أن تكون في اتّجاه عكسي؛ حيث تعمل النصوص العشوائية المكتوبة للطفل على تدجينه ووضعه وضعاً مُهجَّناً وغريباً نتيجة عدم الانتباه إلى المثيرات التي تشترك في صناعة هذا الأدب.

لعلّ من بين أساسيات الاهتمام بأدب الأطفال في عصرنا الحالي تحدّي بناء القدرات الذهنية والإبداعية لأطفال العالم العربي، وهو التحدّي الذي تشترك فيه سلسلة من الحلقات المترابطة والمتكاملة فيما بينها:
تبدأ بالأسرة، ثم الروضة، المدرسة، الشارع، إلى وسائل الإعلام من دوريّات ومجلّات متخصِّصة، وفضائيات وبرمجيات وموادّ منشورة من خلال الإنترنت، ناهيك عن منظمات المجتمع المدني والمؤسَّسات الحكومية.

في هذا السياق تُعَدّ مراحل تكون شخصية الطفل من أعقد المراحل إدراكاً سواء من لدن المختصين والبحاثة أو من قبل الكتّاب المهتمّين بأدب الطفل، وعليه فإنّ ما قد يوجَّه لأبنائنا أنشودةً كان أم قصّةً أم مسرحية يبدو في غاية الأهمّيّة والخطورة في الوقت نفسه. لأنه الوعاء أو الوسيلة التي تتضمَّن القيم والمدركات والغايات المرجوّة من استثمارنا في طفل اليوم، رجل وامرأة الغد.
هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية هناك برامج مختلفة موجَّهة لأطفالنا تتولّى جهات محلّيّة وخارجية إعدادها وإنتاجها ونشرها على نطاق واسع لا يعترف بالحدود الجغرافية وبالخصوصيات القومية والمجتمعية كونياً في سياق آليات العولمة الاتِّصالية. مما قد يجعلنا لسنا الوحيدين مَنْ يقرِّر المصفوفة القيمية والسلوكية التي لابُدّ أن تتوافر لأطفالنا. وبالنسبة لكُتّابنا وإعلاميينا... يطرح هذا الواقع تحدِّياً أخلاقياً واجتماعياً وثقافياً في الوقت نفسه.

من حيث توافُر البنية التحتية، فإن ما تتوافر عليه العديد من الدول العربية اليوم من إمكانيات في مجال السمعي البصري؛ من قنوات فضائية موجهة لشريحة الأطفال يجعلنا نتفاءل. غير أن عدم تحكُّمنا في تكنولوجيات المعلومات وفي البرامج الاستقطابية لقيم وثقافات وافدة يجعلنا نتريّث في تفاؤلنا، ونتراجع عن رسم واقع مبتسم لطفل عربي بحاجة إلى تنشئة سليمة وهادفة، فحين تتحوَّل برامج بعض الفضائيات الموجَّهة للطفل إلى قنوات ستار أكاديمي أطفال وهرج لا يستوعبه الطفل بمختلف فئاته العمرية، تكون الرسالة المراد إيصالها لأطفالنا مغلوطة قيمياً وموضوعياً. فالنغم والصورة والصوت واللون أحياناً لا تقنع الطفل مثلما تقنعه اللغة والقيمة من وراء ذلك، وحين تتسابق هذه القناة أو تلك في عرض آخر أفلام الكارتون الآسيوية والأميركية، وتهمِّش أعمالاً محلّيّة خليجية أو مشرقية أو مغاربية، تنسجم والروح والمتخيَّل والمدرك المحلّي، نكون قد حكمنا على الطفل العربي بالميوعة والتبعية والتقليد غير الواعي مستقبلاً لكل ما هو غير عربي غير مَحَلّي، دون أن ينفي هذا التصوُّر وجود أعمال غير عربية هادفة تعلّم الطفل لدينا قيم الصدق والصبر والحب والتضامن وحب الأرض. والأمثلة كثيرة.

مما لا شكّ فيه أنّ عالمنا العربي والإسلامي يزخر بأقلام لها الباع الكبير في الإنتاج الأدبي الموجَّه للطفل، وقد قدَّمت لهذه الشريحة الحساسة في المجتمع الشيء الكثير، وكثيرة هي الأسماء التي لا تزال مغمورة أو منسية لأن الثقافة التجارية والاستهلاكية طمست مثل هذه القدرات الخلّاقة، أو تناستها لأن الغاية الإشهارية تغلب الغاية التلقينية والتعليمية الهادفة.

إنّ الطفل العربي اليوم يعيش في مجتمعات متفاوتة اقتصادياً واجتماعياً وحتى قيمياً وتكنولوجياً، لكن، ثمّة نقاط مشتركة لابد من تثمينها إذا توافرت الإرادة الصادقة والرشيدة لحكوماتنا العربية في فتح ورشات فنية وإبداعية وعلمية عربية تناقش مثل هذه القضايا وغيرها خدمةً للناشئة من خلال الاستثمار في النظم التعليمية العربية المتاحة وجعلها أكثر مواءمة وملامسة لواقع الطفل العربي وحميمياته من جهة، وأكثر فعّالية وحركيّة في حمل هذا الطفل إلى آفاق آمنة قيمياً وسلوكياً ومجتمعياً، من جهة ثانية.

وتُعَدّ مراجعة نظُم التربية والتعليم وتكييفها مع غايات سياسة ثقافية رشيدة تسعى لصناعة مواطن المستقبل الصالح والمنسجم مع هويَّته وثقافته والمتقبّل للآخر، والمتفاعل الإيجابي مع التحدِّيات التي يمكن أن تواجهه، مواطن لا يحمل تجاه تراثه أي عُقَد أو تشنُّجات فكرية.
رجاءً لا يختلف فيه اثنان، طالما أنه مقصد كل مجتمع توّاق إلى التميُّز والفعّالية والتفوُّق والريادة.

إنّ حماية أطفالنا تكون من خلال تشريعات صارمة تكرِّس
حقّ الطفل العربي في التلقين السليم للحَدّ من الانعكاسات السلبية لبعض مواد الإنترنت والبرامج التي قد تغذّي اتجاهات الخمول والانطواء والكسل لدى أطفالنا، كما أثبتت ذلك الدراسات النفسية والاجتماعية المتخصِّصة،
ناهيك عن الأمراض النفسية والعقدية المستعصية كالإدمان على التلفاز والإعلام الآلي والإنترنت وبرامج ألعاب الفيديو، والمواد الإباحية والعنفية المُفسِدة للعقل والسلوك والترابط المجتمعي، والمفكِّكة للروابط الأسرية بين الطفل/المراهق
وباقي أفراد الأسرة.
بالإضافة إلى الآثار الهدّامة للفرد الناضج ضحية هذه البرامج والوسائط مستقبلاً.

ومما لا شَكّ فيه، أنّ هناك دوراً مركزياً حاسماً لأدب طفل، وهو دور هادف ينهل من خبرات موضوعية رشيدة يتولّى توجيهها مختصّون في الكتابة للطفل، ومربّون، وكذلك الأطفال أنفسهم، وعلماء نفس وعلماء اجتماع وآباء... من أجل التقليص من حدّة الصعوبة الموجودة في الكتابة للطفل، وفي الوقت نفسه من أجل رسم مشروع مجتمع واضح المعالم لرجل الغد، تتولّى وسائل الإعلام والاتّصال العربية بتنوُّعها وتعدّدها توطين (أدب الطفل) في نفسيات أطفالنا.
كما على المنظّمات الأهلية ومنظّمات المجتمع المدني أن تتولّى المتابعة والتوعية والتقييم وخلق بنوك للمعلومات تقوم بعملية الإسناد والدعم للحيلولة دون انحراف الجهود الرامية لإنجاح المشاريع المراد تجسيدها، وكذلك ضرورة دعم المجتمعات أو الحكومات التي تعاني من ضعف إمكاناتها المادية والبشرية، سعياً لبناء القدرات الذهنية والإبداعية لأطفال اليوم، رجال ونساء الغد في بلادنا العربية.

في نهاية هذا المقال لابد من التأكيد على أن هناك الكثير من الإرادات الخيِّرة والجهود الصادقة باتجاه فتح زوايا مهمّة لنقاش هادف حول أهمّيّة أدب الطفل عربياً، لابد من تثمينها وتعميقها في ظل الطفرة المعلوماتية الراهنة التي تفرض
علينا الكثير من التحدِّيات.

منقول