بوح القرى ..

عمّ الصمت قليلا .. سكينة محببة اجتاحت المكان ..

وكأن هالة من سؤال أخذت تحيط بالتل الذي كنت أعاينه، وأقف متأملا، ومستعيدا بعض الحكايات التي ارتبطت به،
في ماسوح، وكان الاستفهام مشرّباً بالحيرة، حول مصداقية ما أسمع عن هذه المغارة التي تقع في المنتصف بين
الأطلال، والخضرة، بين قلق الأسئلة، وضبابية الأجوبة.
ها أنا أقف أمامها، ولكني لم أدخلها، غير أن بوابتها تشي بأسرار محتجبة فيها، خاصة وأن دليلنا الى هذه المغارة
(مغارة شمهروش)، وراوي قصتها، كان يقسم علينا، ويستحلفنا، بأن نفضح سر الشعوذة المرتبطة بهذه المغارة، وكان اسمه بسام محمود محمد الجهران، وكأنه ناسك قديم،بلحيته الخفيفة، وهيأته الأقرب الى المتعبدين القدماء، وهو
من أهل القرية، وأحد أبناء ماسوح.. قال، والعهده على قوله كراوٍ، أنه شهد على كثير من حكايات مغارة شمهروش،
اذ يأتيها السحرة، والمشعوذون، كما أنه يأتيها من يريد التعامل مع الجن، ويتوق لمعرفة أسرار علوم هذا العالم الغريب.

حديث الراوي
يتحدث بسام، قليلا، يصمت أحيانا، ويقاطع كلامه وصمته، بين فينة وأخرى، بقراءة المعوذات وأدعية بعضها نسمعه والبعض الآخر يردده بسرّه، ثم يكمل حديثه بأن شمهروش هو ملك الجن، وأن هؤلاء الجن الذين معه يقدمون كل
يوم اثنين القرابين للقرين في هذه المغارة، وأن هناك أناسا كثيرين يتعاملون مع هذا الجني، والسحر المرتبط به، حيث يستعينون بما لديه لكتابة الحُجُب والتعامل بها. كما أن مغارة المشنقة القريبة من مغارة شمهروش، كانت مكانا للعقاب والاعدام في مرحلة تاريخية قديمة، وقد تكون لها علاقة بالعقوبات التي تصدر من شمهروش على من يغضب عليه. وقال بسام ان حكاية شمهروش معروفة خارج الأردن كثيرا، وهناك مغارة في المغرب بنفس الاسم وتحدث عنها الشيخ راشد الزهراني في برنامج تلفزيوني له على احدى القنوات الفضائية.

الوهم والحقيقة
هذا الاسم: شمهروش، وحكايات الجن، وحماس الراوي بسام لكشف هذه الأسرار، كلها أدهشتني، ورغم أني أكملت
جولتي في القرية، وتابعت برنامجي الكتابي، والبحثي، لاستكمال بوح قرية ماسوح، إلا أن حكاية شمهروش بقيت معلقة
في الذهن، كأنها أيقونة بقيت تتراءى أمامي، حتى أثناء تفاصيل الأحاديث الأخرى. كل هذه الحالات والاسباب جعلتني
أتجه ببحثي، ومتابعتي حول ماسوح، الى مساحات أخرى لم أكن أتوقع أني سأصلها في كتابتي عن قرية جئتها،
وفي ذهني تل الآثار فيها فقط.
المهم أنني صرت أتساءل بجدية عن أصل حكاية ملك الجن، لأعرف تفصيلات أخرى عنه، ولذا فحين بحثت عن برنامج الشيخ راشد الزهراني، الذي أشار اليه بسام الجهران، في حديثه، وجدت الشيخ الزهراني، وبعد أن يستهل برنامجه
(الوهم والحقيقة) بمقدمة دينية وعظية، يدخل المشاهد بعدها معه الى تجربة الترحال الى المغرب، قريبا من مدينة آسفي، ثم يقوم برحلة الى مغارة شمهروش، ليكتشفها، هناك في المغرب، وليس في قرية ماسوح في الأردن، يمشي عبر طريق صعب، بين الجبال، في المغرب، ليكون الوصول بعد ذلك الى مغارة أو مقام شمهروش، كما هو واضح من صور
اللافتة أمام المغارة، وما كتب عليها، وكذلك من خلال شهادات وأحاديث بعض الذين تم اللقاء معهم قريبا من المغارة.

«ملوك الجن السبعة»
أتابع برنامج الشيخ الزهراني، واسمه الوهم والحقيقة، وهو يبث على قناة المجد، حيث كانت الرحلة الى مغارة شمهروش صعبة، مشوقة، وغريبة، فيها مسير على الدواب بين الجبال، عبر طرق وعرة، وطقس بارد، وجغرافية موحشة تفضي الى منطقة قديمة،يكون الوصول اليها بعد ساعتين ونصف من المشي، حيث لحظة المواجهة بمغارة شمهروش على مرتفع بين الجبال. ولأن هذه المغارة صارت معلما مقدسا، أصبحت مأهولة بسبب كثرة الزوار الذين يأتون للتبارك والتقرب من المغارة التي يقترن اسمها بقاضي الجن شمهروش، أو ملك الجن، أو أحد ملوك الجن السبعة، حيث تقدم لشمهروش الهدايا، والنذور، والقرابين التي توضع في المغارة عند قبر شمهروش.
تشير الصورة الى مسجدقريب من المغارة، وهناك أعلى الكهف مجموعة أعلام، وبعض مرضى عند المدخل، ولوحة مكتوب عليها خاص بالمسلمين.. القرابين التي يحضرونها معهم هي اغنام،أو ديوك يذبحونها في مكان خاص عند المغارة بعد أن يغتسلوا قريبا منها.. هم يأتون الى شمهروش للتخلص من الارواح الشريرة، ويوقدون الشموع عند مدخل المغارة، لأنه يتم لقاء «النور بالنور»، كما يعتقد الزوار، كما عبر عنه أحدهم في حديثه.
داخل المغارة اشكال وانواع من اللوحات المعلقة تعبر عن أدعية وصلوات على النبي، وفي مكان اسفل المغارة هناك مساحة مقدسة تشبه القبر، يجلس فيه المريض، كما أنه تراب تحت قطعة في جانب من القبر هذا، وقريبا منه صندوق وضع لجمع الهداياوالنذور.
وحول ماهية شمهروش، وما الذي يعتقدونه حوله، فإن بعضهم يرى أنه واحد من اولياء الله الصالحين، ونفر من الزائرين، يعتقد أنه عميد الجن، وأنه الزعيم والشيخ للجن،فهو الجني الأكبر، وهذاالمكان مقدس، وفيه محكمة كبيرة للجن، وتشفى فيه أمراض السحر ويعالج هنامن يعتقد ان فيه جناً أو سحراً. وقال قائل ممن يخدمون المغارة، ويقومون على رعايتها، أنه في هذه المغارة ينزل سبعة ملوك جن،مؤمنين،مسلمين، يعبدون الله، ولكل ملك من ملوك الجن هؤلاء، يوم خاص به، ينزل فيه الى هذه المغارة، حيث أن الاحد ينزل فيه ملك المذهب، ويوم الاثنين هو للملك الأبيض، ويوم الثلاثاء للملك مُرّة، ويوم الخميس لملك ملوك الجان شمهروش، ويوم الجمعة للملك الأبيض أبو النور، ويوم السبت للملك ميمون.



مضارب النمر
أواصل تتبع بوح قرية ماسوح، ولكن بعيدا عن مغارة شمهروش، وسيرة ملوك الجن، حيث أبتعد عن التل الأثري، لأقلب بعض صفحات حول سيرة الانسان والمكان في القرية، حيث أقرأ ما كتبه الدكتور نوفان رجا الحمود السوارية في كتابه (عمان وجوارها خلال الفترة 1281هـ/1864م-1340هـ/1921م) عن ماسوح في عدة مواضع منه،فيذكر في فصل الحياة الاجتماعية، عند مروره على عشائر العدوان أن ماسوح من المناطق التي سيطرت عليها هذه العشيرة، حيث يقول «تعد عشيرة العدوان من القبائل الكبيرة في منطقة الدراسة، إذ سيطرت على جزء كبير من المنطقة، امتدت من الرامة
والكفرين ونمرين في الغور الى السهول المحيطة بعمان وحسبان والعال وماسوح، وقد أشار عدد من الرحالة الذين مروا بالمنطقة الى الوجود الكثيف لقبيلة العدوان في المنطقة فكان السهل غربي عمان وحول حسبان وواديها من الأماكن المفضلة لديهم حيث كانت تنتشر مضاربهم في الربيع والصيف، وكان يشار الى حسبان بأنها قرية قبلان. وكان السهل بين حسبان ومادبا من منازل عشيرة علي آغا الذياب..». ثم يفصل عشائر العدوان، ويذكر أن «العشيرة الثانية هي النمر وشيخها قبلان النمر، واتسمت علاقته مع الدولة بالعداء، وكان موصوفا بالشجاعة والإقدام، وذا تأثير بين عربان البلقاء، علاوة على أنه من قضاة البلقاء المشهورين، وكانت مضارب النمر في الصيف عين الفضيلي غربي حسبان أو في
ماسوح شمال شرقي حسبان كما أن امتدادها شمالا يصل الى الجبيهة وياجوز ومن فرق النمر التي تتجول في منطقة الدراسة؛ ا لفاضل، القبلان، والعبد العزيز، وعيال فندي، والحبيب، والسيف، والردان، والطلاق، والمدلج، والمسلم..».

استملاك الأراضي
في مساحة أخرى من الكتاب يشير الدكتور السوارية الى استملاك الأراضي في المنطقة، ويذكر ماسوح، حيث يقول «واستغل عدد من التجار والأعيان الذين قدموا الى منطقة الدراسة فترة تسجيل الأراضي وامتلكوا مساحات واسعة من
الأراضي مستغلين فقر الفلاحين وعجزهم عن دفع رسوم التسجيل، واستطاعوا بمعونة هؤلاء الفلاحين تسجيل هذه الأراضي بأسمائهم بحجة أنهم كانوا يفلحونها منذ القديم واستمروا في فلاحتها بحيث مر عليهاالمدة القانونية (مدة مرور الزمن) اللازمة لإعطائهم سندات تصرف بموجب حق القرار، أو أنهم اشتروها منذ القديم بموجب صكوك بيع خارجية
(أي بيع خارج دائرة الأراضي)

~~~