مثل كل العمليات الحيوية في الجسم ، فإن المحافظة على درجة حرارة الجسم عند معدل ثابت عملية معقدة تستلزم
اشتراك عدة أجهزة وأعضاء في نفس الوقت، وتتم عبر قنوات كيميائية وفيزيائية وعصبية بالغة التداخل !
أحيانًا تخفق ميكانيكية المحافظة على درجة حرارة الجسم، فتنخفض درجة حرارة الجوف عن معدلها الطبيعي .
فماذا يحدث في الجسـم عندما تنخفض درجة حرارته ؟! هل يتجمد الإنسان من البرد ؟!
وما هي الظروف والأحوال التي تتعرض فيها ميكانيكية المحافظة على درجة الحرارة للإخفاق ؟!

الإحساس بالحرارة:
تنتشر على سطح الجلد خلايا حسية مهمتها استشعار درجة الحرارة في بيئة الإنسان . وتنسب هذه الخلايا إلى علماء التشريح الذين اكتشفوا وجودها ووصفوا وظيفتها . فالخلايا الحسية المختصة باستشعار الدفء تسمى «كُرَيَّـات رافيني» [نسبة إلى عالم التشريح الإيطالي «أنجلو رافيني» Angelo Ruffini (1864–1929)] .
بينما تسمى الخلايا الحسية المختصة باستشعار البرد «بُصَيْلات كراوس» [نسبة إلى عـالم التشـريح الألماني «ويلـهلم يوهـان فريـدريك كـراوس» W. J. F. Krause 1833–1910)] .
تتركز خلايا استشعار الحرارة بصورة خاصة في الوجه واليدين . وبشكل عام ، فإن نسبة عدد خلايا استشعار الدفء (كريات رافيني) إلى خلايا استشعار البرد (بصيلات كراوس) هي 4 إلى 1 ؛ وفي بعض المواضع من سطح الجلد
تصل النسبة إلى 10 إلى 1.
[المقصود بالدفء في هـذا السياق، ارتفاع درجة حرارة البيئـة أو المكان الموجود فيه الانسان .
والمقصود بالبرد، انخفاض درجة الحرارة] .
هذه الخلايا الحسية تعمل عمل الرادار أو كتائب الاستطلاع . إذْ تقتصر مهمتها على نقل التغيرات في درجة حرارة البيئة إلى المخ ، دون أن تتأثر بدرجة حرارة الجسم الحقيقية ؛ إذْ لو تأثرت تلك الخلايا بدرجة حرارة الجسم، لما تمكنت من الإحساس بتغير درجة الحرارة في البيئة . كما أن هذه الخلايا الحسية في الجلد قادرة على استشعار تغير في درجة حرارة البيئة ، يصل إلى جزء واحد من ألف جزء تنقسم إليها درجة الحرارة الواحدة (0,001م)! بل أنها قادرة على ذلك ، حتى وإن كان التغير في درجة الحرارة لبرهة وجيزة من الزمن (ثانية احدة)!
ينتقل الإحساس بتغير درجة الحرارة من خلايا الاستشعار في الجلد عبر الأعصاب إلى «الجسم المِهَادِي» في المخ . ومن الجسم المهادي ينتقل الإحساس إلى « المراكز العليا » في قشرة المخ .

تنظيم حرارة الجسم:
كيف يمكن الاستفادة من المعلومات التي ترسلها كتائب الاستطلاع في تنظيم درجة حراة الجسم والمحافظة عليها عند
معدل ثابت ؟!
يوجد في الجسم المهادي مركزٌ لاستشعار درجة حرارة الدم . وتُرسل المعلومات من هذا المركز إلى المراكز العليا في المخ . وبذلك تتـوافر معلومات للمخ عن درجة حرارة البيئة ، وعن درجة حرارة جوف الجسم .
وفي ضوء تلك المعلومات ، يُرسـل المخ أوامرَه إلى مراكز تنظيم الحرارة الموجودة في « الجسم تحت المِهَاد »
الجسم تحت المِهَاد أحد تراكيب المخ ، ويقع مباشرة تحت الجسم المهادي (ومن هنا جاءت التسمية) ، ويحتوي على مركزين لتنظيم درجة حرارة الجسم ، أحدهما هو « مركز فقدان الحرارة » والثاني هو « مركز اكتساب الحرارة ».

* إذا كانت حرارة البيئة مرتفعةً بحيث تؤدي إلى رفع درجة حرارة الجسم ، تصدر أوامر من المخ إلى مركز فقدان الحرارة في الجسم تحت المهاد ، للعمل لإنقاذ الموقف ، فيؤدي نشاط مركز فقدان الحرارة، عبر الرسائل العصبية والكيميائية، إلى الأحداث (أو العمليات) التالية:

- توسع الأوعية الدموية في الجلد، وزيادة توارد الدم إليها ، لفقد حرارة من الجسم إلى الخارج بطريق الإشعاع . [«الإشعاع» Radiation أحد صور أو طرق انتشار الحرارة من جسم ساخن إلى وَسَط أو جسم أقل سخونة] .

- تنشيط غـدد العرق للإفراز بغزارة . إذْ يؤدي تبخر العرق مـن على سطح الجلد إلى خفض درجة حرارة الجسم . [«البخر» evaporation، أحد صور فقدان الحرارة . وفي حال تبخر العرق ، فإن الحرارة اللازمة لتحويل الماء (العرق) إلى بخار تأتي من الجسم – أي أن الجسم يفقد حرارة في هذه العملية] .

- كبح النشاط العضلي ، بحيث يقل إنتاج الحرارة في الجسم .
[يؤدي النشاط العضلي إلى إنتاج طاقة حرارية . وهذا هو السبب في شعور الإنسان بالدفء عند القيام بمجهود عضلي].

تستمر هذه العمليات إلى أن تعود درجة حرارة الجسم إلى معدلها الطبيعي ، فتصدر الأوامر من المخ إلى مركز فقدان الحرارة في الجسم تحت المهاد بالتوقف عن العمل .

* وفي الطرف المقابل ، فإن انخفاض درجة الحرارة يؤدي إلى نشاط مركز اكتساب الحرارة ، الذي يؤدي بدوره إلى الأحداث (أو العمليات) التالية:

- تضييق الأوعية الدموية في الجلد ، وتقليل مقدار الدم الوارد إليها ، في محاولة لمنع فقد الحرارة بالإشعاع .
[لهذا السبب يجد الإنسان صعوبة في تدفئة يديه وقدميه في الجو البارد] .

- كبح إفـراز العرق تمامًا ، لمنع فقد حرارة من الجسم في عملية تبخر العرق .

- إحداث انقباضات عضلية (لا إرادية) لتوليد طاقـة حرارية في الجسـم .
[هذه الانقباضات هي الرعشة أو الرجفة shivering التي تصيب الإنسان في الجو البارد] .

ومرة أخرى ، فإن هذه العمليات تستمر في الحدوث إلى أن ترتفع درجة حرارة الجسم إلى معدلها الطبيعي .
وعندئذ يصدر الأمر من المخ بإسدال الستار على هذه العمليات .

من خلال هذه العمليات المعقدة يحافظ الجسم على درجة حرارة ثابتة عند سبع وثلاثين درجة مئوية
(37 م = 98,6 ف) .

انخفاض درجة الحرارة:
يتكيف الجسم مـع تغيرات طفيفـة في درجة الحرارة حـول المعدل الثابت (37 م). لكن إذا انخفضت درجة حرارة جوف الجسم إلى خمس وثلاثين درجة مئوية (35 م) أو تحتها ، فإن الإنسان يكون مصابًا بما يسمى طبيًّا « انخفاض درجة الحرارة » .
ولأن درجة حرارة الفم يمكن أن تكون منخفضة جدًا إذا كانت البيئة شديدة البرودة ، فعـادة ما يُعْتَمَدُ على قياس درجـة الحرارة من الشرج لتشخيص حالة انخفاض درجة الحرارة .
كما يفضل مقياس الحرارة الإليكتروني عـلى مقياس الحرارة العـادي لتشخيص هـذه الحالة .
[التدريج على مقياس الحرارة الإليكتروني يقع بين درجتي 25–40 م)].

والمقصود بدرجة حرارة جوف الجسم هو درجة حرارة أعماق الجسم ، التي هي انعكاس دقيق لدرجة حرارة الدم ،
خلافًا لدرجة حرارة سطح الجسـم ، التي لا تعكس درجة حرارة الدم بصورة دقيقة .
[يمكن أن تكون درجة حرارة الدم طبيعية ، بينما درجة حرارة سطح الجسم منخفضة – على الأقل لبعض الوقت] .
تُعْطَى حالاتُ انخفاض درجة الحرارة أسماء معينة ، تبعًا للظروف والأحوال التي تؤدي إليها . وبيان ذلك ما يلي:

$ انخفاض درجة الحرارة الأساسي :
في هذه الحالة تنخفض درجة الحرارة بسبب اضطراب خطير في ميكانيكية المحافظة على درجة الحرارة . ومن حسن الطالع أنها حالة نادرة جدًا . وبسبب عدم توافقها مع الحياة فإنها تؤدي إلى الوفاة .
[من الصعب نظريًّا وعمليًّا علاج هذه الحالة . إذْ لو أخفق المخ في تنظيم درجة الحرارة ، فما البديل ؟] .

$ انخفاض درجة الحرارة الثانوي:
هذه حالة شائعة ، يكون فيها اضطراب ميكانيكية تنظيم حرارة الجسم ناتجًا ثانويًّا لعلة مرضية أخرى .
مثال ذلك حدوث نوبة قلبية أو سكتة مخية (دماغية) . ففي هـذه الأحوال تخفق عملية تنظيم الحرارة بسبب ارتباك عمل أحـد العناصر الرئيسية فيها . وتتوقف إمكانية العلاج في الحالات الثانوية على إمكانية علاج العلة التي كانت سببًا في حدوثها.

$ انخفاض درجة الحرارة المزمن:
قد يطول الأمد بإخفاق ميكانيكية تنظيم الحرارة ، بحيث يصبح الإنسان مصابًا بانخفاض مزمن في درجة الحرارة .
ويحدث ذلك نتيجة مرض مزمن مُقْعِد ، ونتيجة إدمان الكحول ، وفي مرض باركنسون ، وفي مرض البول السكري
غير الخاضع للعلاج .

$ انخفاض درجة الحرارة العَـرَضِي:
هذه أكثر حالات انخفاض درجة الحرارة شيوعًا ، خصوصًا بين كبار السن الذين تضعف عندهم ميكانيكية المحافظة على درجة الحرارة . ويحدث الانخفاض العرضي في درجة الحرارة عندما يتعرض الإنسان لبرد شديد في البيئة ، سواء داخل المنزل أو خارجه . وتزداد فرصة حدوث انخفاض درجة الحرارة العرضي في فصل الشتاء ، إلا أنه يمكن أن يحدث في أي وقت من العام .

$ انخفاض درجة الحرارة الطبي:
تطلق هذه التسمية على الأحوال التي تنخفض فيها درجة حرارة الجسم لأسباب علاجية ، كما يحدث أثناء إجراء بعض العمليات الجراحية ، أو كنتيجة ثانوية غير مرغوب فيها لتعاطي بعض أنواع العقاقير ، مثل العقاقير المنومة والعقاقير الكابحة للجهاز العصبي المركزي (المخ والحبل الشوكي) .

ويُقسم انخفاض درجة حرارة الجسم من الناحية الطبية إلى ثلاثة أنواع:

1 - انخفاض طفيف : عندما تتراوح درجة حرارة الجوف بين 34-34.9 م

2 - انخفاض معتدل : عندما تتراوح درجة حرارة الجوف بين 32-33.9 م

3 - انخفاض خطير : عندما تهبط درجة حرارة الجوف دون 32 م

[لمعرفة ماذا يحدث في الجسم عند انخفاض درجة الحرارة، راجع الجدول ]

$ المضاعفات والعلاج:
في معظم أنواع انخفاض درجة الحرارة ، يقف الانخفاض في درجة حرارة الجوف عند حد معين .
لكنْ في حالة انخفاض درجة الحرارة العَرَضي ، يستمر الانخفاض في درجة حرارة الجسم طالما اسـتمر الإنسان معرضًا للبرد الشديد ، إلى أن تتغير الظروف (كأن يحتمي الإنسان من البرد الشديد) أو تحدث الوفاة .
(ما لم يكن هناك تدخل علاجي سريع).
عنـدما يتطور انخفاض درجة حرارة الجوف مـن النوع الطفيف إلى النـوع المعتدل ثم إلى النوع الخطير ، يفقد الإنسان وعيَه تدريجيًّا إلى أن يصاب بـ « الغيبوبة » .
بعض الناس يصاب بالغيبوبة عند درجة 31 م بينما لا يصاب البعض الآخر بها إلا عند درجة 27 م .
مع الانخفاض التدريجي في درجة حرارة الجوف يستبدل تخشُب (أو تصلب أو تشنج) العضلات بالرعدة (أو الرجفة)، ويصير التنفس بطيئًا ضحلا بمعدل مرتين في الدقيقة أو نحو ذلك .
(يتراوح معدل التنفس الطبيعي في وضع الراحة بين 16 إلى 24 مرة في الدقيقة) .

ومن المضاعفات الأخرى لانخفاض درجة الحرارة حدوث « حموضة » .
(نتيجة اختلال توازن الحامض القلوي في الجسم) ونقص حجم الـدم في الأوعية الدموية (يُقدر حجم الدم بالليترات) والجفاف (نتيجة ارتشاح السوائل في الفراغات بين الخلايا) وكبح التنفس واضطراب القلب وحدوث « صدمة » وقد يحدث التهاب رئوي أثناء حالة انخفاض درجة الحرارة أو أثناء النقاهة منها .

وجدير بالذكر أن اضطراب وظائف الجسم ، الناتج عن انخفاض درجة الحرارة ، يمكن أن يخفي أي علة مرضية قد
تكون موجودةً من قبل . لهذا فإن العلاج في هذه الحالة ينصرف في المقام الأول إلى اسـتعادة درجة الحرارة الطبيعية
ثم علاج المضاعفات الموجودة .

أساس العلاج هو نقل المصاب إلى مكان دافئ ، وتدفئة جسمه تدريجيًّا بمعدل نصف درجة مئوية كل ساعة
(0.5 م/ س) . ويتحقق ذلك باستخدام أغطيـة . أما محاولة تدفئة الجسم بسرعة ، باستخدام قوارير الماء الساخن أو بتدليك الجسم ، فقد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة ، في مقدمتها انخفاض حاد في ضغط الدم . كذلك يعطى المصاب مشروبات ساخنة من حين إلى آخر ، مع لفّ الرأس جيدًا في دثـار لتدفئتها .
أما إذا كان المصاب فاقدَ الوعي ، فتعطى له السوائل عن طريق الحقن في الوريد ، بعد تدفئتها بجهاز خاص .
إذا قدر للمصاب أن ينجو من حالة انخفاض درجة الحرارة ، فإنه – مع العلاج المذكور – يستعيد درجة الحرارة
الطبيعية في غضون ساعات . أما المضاعفات فيلزم لعلاجها عدة أيام .
من الممكن أن يتوقّى الإنسان الوقوعَ في حبائل هذه المشكلة العويصة بوقاية نفسه من البرد الشديد ، وبعدم الانتقال فجأة من مكان شديد الدفء إلى آخرَ شديد البرد . وكلما تقدم الإنسان في العمر كان الأخذ بهذه التدابير ضرورة حياة !.

الجدول يبين ماذا يحدث في الجسم عند انخفاض درجة الحرارة

ماذا يحدث في الجسم ؟! ... درجة حرارة الجوف ( ْم)
عند درجة حرارة الجسم 37 م
استجابات الجسم طبيعية

عند درجة حرارة الجسم 36 م
تضيق الأوعية الدموية في الأطراف ، رجفة البرد ، ارتفاع ضغط الدم

عند درجة حرارة الجسم 35 م
رجفة البرد في أقصى معدل لها ، طبيًّا : إصابة بانخفاض درجة الحرارة

عند درجة حرارة الجسم 34 - 33 م
اضطراب القدرة على حفظ توازن الجسم ، شحوب اللون ، ضغط الدم طبيعي

عند درجة حرارة الجسم 32 - 31 م
اضطراب الوعي ، بطء ضربات القلب ، بطء التنفس ، انخفاض ضغط الدم

عند درجة حرارة الجسم 30 – 29 م
استمرار فقدان الوعي ، تشنج العضلات ، توسع إنسان العين ، مع استمرار الاستجابة للضوء

عند درجة حرارة الجسم 28 – 27 م
اهتياج القلب مع احتمال حدوث " ارتعاش البطين ” ، شحوب شديد ، إنسان العين لايستجيب للضوء ، انعدام
الاستجابة العصبية

عند درجة حرارة الجسم 26 - 24 م
ارتعاش البطين يحدث تلقائيًّا ، ارتشاح سوائل في الرئتين

عند درجة حرارة الجسم 23 – 21 م
خطر حدوث ارتعاش البطين يكون في أقصى معدل له

عند درجة حرارة الجسم 20 م
توقف القلب التام

عند درجة حرارة الجسم 18 م
أدنى درجة حرارة لجوف الإنسان جرى تسجيلها في إصابة عرضية ، وأمكن معالجة المصاب منها !

17 م
توقف نشاط المخ الكهربي

منقول للفائدة