لكلمة «مرونة» فـي أصل اللغة مدلـولٌ رائع ، يبعثُ على التأمُّل ؛ حيث تشير المعاجم اللغوية إلى أن المرونـة تعني : «اللين في صَلابةٍ ..!» ، إذن فهي حالة يلتقي فيها ضِدّان عند نقطة واحدة ، يجتمعان في زمان ومكان واحد ، أو فـي تفكير أو موقف أو سلوك واحد . فرغم أن اللين ضِدُّ الصلابة ، فإنهما إذ يلتقيان في حالة «المرونة» ، فإنما يلتقيان لقاءَ تجاذب واندماج ، وليس لقاء صراع ونزاع دَرَجَتْ عليه الأَضداد ..!
ولأن القوانين التي تحكم المواد والأجسام ، كثيراً ما تنطبق على حياة البشر ، أو كثيراً ما تصلح مادة للتشبيه تساعد على تفهّم القوانين التي تحكم السلوك الإنساني ، فلا أحسبُ أن ثمة ما يمنع من الاستعانة بمفاهيم علم الفيزياء ، ما دامت تُسهم في جلاء صورة جوانب من مشاعرنا وأفكارنا ومواقفنا وتصرفاتنا فيما يتعلق بمفهـوم المرونـة . وعلى ذلك ، فالمرونـة بمعناها الفيزيائي : خاصية فـي المادة ، تتمثل في ميلها لاستعادة حجمها وشكلها وحالتها الأصلية ، بعد زوال القوة المؤثرة فيها ، أي بعد زوال المطّ أو الضغط أو الليّ الذي تعرضت له . إذن ، ففي الجسم المَرِن استعداد يجعله قابلاً لتعديل وضعـه ، لكي لا ينقطع أو ينهرس ، ولكي يستمر ، ويقوم بدوره النافع في الحياة ، لكن دون أن يفقد خواصّه وصفاته ، أو يفقد القدرة على استعادة حالته الأولى ، أو يحدث فيه تشويـه ، أو يفقد (شخصيته) إن جـاز التعبير .

المرونة قدرة على التعديل .. وليست حالة ميوعة وتقلّب :

يَحْسَبُ البعض أن المرونة نوع مـن الميوعة ، أو التقلُّب ، أو الانقياد ، أو الانصهار ، أو الذوبان ، أو اتخاذ المـرء شكل القالب الذي يوضع فيه (كما هو حال السوائل) ، وهـذه نظرة قاصرة ، يفنِّدها حتى المعنى اللغوي للكلمة ، فالمرونة لينٌ في صلابة ، ومن الخطأ أن ننظر إلى جانبٍ منها ، ونتغاضى عن الآخر ، أي أن نرى ما فيها من لينٍ ، ونغفل عن جانب الصَّلابة . لأن المرونة حالة تمتزج فيها مقادير متجانسة من الليونة والصلابة معاً ، تحقق قدرةً على التكيف الإيجابي والتأقلم والتواؤم ، إنها قدرة على التعديل في الموقف وفي السلوك بهدف الاستجابة لمقتضيات الظروف المحيطة ، وفقاً لمتطلبات البيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية ، كما أنها قابليةٌ لتعديل الأفكار ، وتقبّل الجديد ، وتجاوز الجمود ، كل ذلك إذا ظهرت حقائق علمية أو منطقية أو موضوعية ، أو نتائج واقعية تفرض مثل هذا التعديل .
وتذكر مراجع علم النفس التي تبحث في مواضيع (السَّواء واللاسواء) أن المرونة من أكبر مؤشرات الصحة النفسيّة ، حيث أن المرضى النفسيين يتّسمون غالباً بالتصلبُّ والنمطيّة والأُحادية . وتذكر هذه المراجع أيضاً أن المرونة هي أساس التكيّف ، وأن التكيّف لــــه أربعة مقتضيات : أولها تغيير ما يقبل التغيير ويجب تغييره ، وثانيها تقبل ما لا يجوز تغييره ، وثالثها التواؤم مع ما لا يمكن تغييره ، ورابعها التمييز بين الحالات الثلاث السابقة .

مظاهر غياب المرونة :
ويتجلّى غياب المرونة في أكثر مظاهره وضوحاً ، في حالات متعددة منها :

ـ تصلّب الذهن ، وجمود الأفكار : حيث يميل التفكير في هذه الحالة إلى القَطْعيَّةَ والحديّة (إما ـ أو) ، كما يميل إلى استخدام الأفكار المسبقة ، والمعايير الجاهزة ، والقوالب الجامدة في فهم الوجود ، والنظر إلى المشاكل ، وفي الحكم على الأفكار والمذاهب والفلسفات والناس والأشياء.
التعصّب : بمعنى الميل الأعمى لمبادئ أو أفكار أو رأي أو قوم أو فئة أو حزب ، أو لغير ذلك ، ميلاً عاطفياً انفعالياً يجعل صاحبــــه يَصمُّ أذنيه ، ويغمض عينيه ، عـن كل السلبيات القائمة في موضوع هذا الميل ، وعن كل ما قد يقلل من انحيازه ، أو يناقض مبرراته، أو يفنّد أسبابه .
ـ العناد : ويعني مخالفة الشخص للحق رغـم أنه يعرفه ، أي الإصرار على الخطأ لمجرد المكابرة ، التي تشير في المحصلة إلى عدم القدرة على تعديل التفكير أو السلوك .
ـ التفكير المنغلق : وهو التفكير الذي لا يستطيع تصور وجود الرأي الآخر ، أو فهم نسبية الحقيقة ، وقابلية كل رأي للصواب والخطأ .

الذين يفتقدون المرونة .. لا يفهمون طبيعة الحياة ..!
إن الذين يفتقدون إلى المرونة ، ممن لا يستطيعون تعديل أفكارهم ومواقفهم وتصرفاتهم عندما تَجِدُّ أسباب حقيقية وموضوعية تستوجب ذلك ، لا يدركون قاعدة الحياة التي تقول : إن كل شيء يتغيّر إلاّ قانون التغيّر ، ولا يعلمون أن الأساس في حياة الأشخاص والمجتمعات والمؤسسات هو التغيّر وليس الثبات . وربما لا يعرفون أن الخرافة والأساطير تقوم على أساس التصلُّب ؛ لكونها مقولات نهائية لا تقبل التعديل ، بينما يقوم العلم على أساس المرونة لأن نظرياته وقواعده وقوانينه ونتائج دراسته قابلة للتغيير . وربما لا يعلمون أيضاً أن الحياة منذ ظهرت على وجه الأرض قامت
على أن أساس انتخابٍ طبيعيّ قاسٍ ، مقتضاه أن من يمتلك المرونة التي يتطلبها التكيف مع البيئة يستمر ،
ومن يفتقدها ينقرض ..!

إن الشجرة لا تفقد (شَجَريّتها) ، ولا تتنازل عن خُضرتها ، وقدرتها على مدّ الظلّ ، وإطلاق الزهر ، وحمل الثمر ، وانتاج البذور والفسائل ، وبثّ الجمال ، ولا تتخلى عن نزوعها إلى النمو والتفرّع والعطاء ، إنها لا تفعل شيئاً مـن ذلك حين تميل جذوعها للعواصف ذات اليمين أو ذات الشمال ، فهي تميل لكي تحافظ على وجودها وعطائها وخصائصها ، لكنها لا تنحني ، وتلكم هـي الليونة في صلابة ... تلكم هي المرونة . ولو لم تكن الشجرة واثقة من أن جذورها ضاربة في الأرض ، وأن فروعها لَدِنَةٌ وقوية في آن واحد ، لما ملكت أي جرأة على ممارسة تلك المرونة .
والذين يملكون المرونة بمعناها المتقدم ، يدركون أن الوعل الذي ناطح الصخرة انكسرت قرونه ، ولو أنه التفَّ حولها ومضى لنال السلامة . ويدركون أن العين لا تقاوم المخرز ، لكنها تستطيع أن تتقي شره ، وتبقى مُبصرة 0 ويفهمون رأي الباحثين في الاستراتيجية الذين يقولون : (( أن تُعدّلَ استراتيجيتك وتبقى ، خير من أن لا تعدل استراتيجيتك ولا تبقى )) . ويدركون أن غياب المرونة يؤدي لإبقاء ما كان على ما كان ، مما يحول دون التطور ، ويؤدي إلى الجمود والتعصب والعناد ، وكل هذه تبعث على الصراعات والتطرف وأحياناً الإرهاب .
إذن ، فالمرونة حكمة وفطنة ومهارة ، وفهم لطبائع الأشياء ، واستيعابٌ لسنن الحياة ، وإدراكٌ لضرورات التكيّف ، وهي الأكثر تعبيراً عن الصحة النفسية ، والأقرب إلى التسامح ، والأبعد عـن التعقيد ، والأقـدر على تحقيق التطور ، والأدعى إلى الاستمرار والعطاء ، وهي ليست حاجة بالنسبة للفرد وحسب ، ولكنها ضرورة للمجتمعات والمؤسسات والدول كذلك .

إبراهيم كشت