محمد رفيع - هناكَ، عندَ حافّة البرّ الاوروبيّ، تغرقُ اليابسة في بحر (ايجه..)، فيشتعلُ رأسُ مضائق البحر والأمم. وفي آخر البرّ الآسيويّ، حيث تطفيءُ اليابسة ما اشتعل منها، تنصدعُ المسافات في بحر (مرمره..)، فينفلق البحرُ الى مضيق، ويصيرُ (الدردنيل ..).
فهناكً تعرفُ أنّ الهُونَ والأفار والسُّلاف واليونان والرومان والفرس والعرب والعثمانيين، كلُّهم، حاربوا واراقوا الدماءَ للسيطرة على المضيق .. فاستقظت اساطير الشعوب.
فمِن طِروادة الى أثينا واسبارطة، الى الإسْكَنْدر وجَيشُهُ، الى الرُّومانُ الذين اخضعوا مِنْطَقةِ شَرْقِ البَحْر المتوسِّط بأكمَلِها، عبر الدردنيل، وانتهاء بالإمبراطور الرُّومانيُّ قسطنطين الكبير الذي نَقْلَ عاصِمَتِهِ من رُوما إلى الشَرْقِ، فصارت بيزنطة ..!؟
* حقائق:
- مضيق الدردنيل هو ممر مائي دولي يربط بحر إيجة ببحر مرمرة. ويفصل المضيق ما بين شاطئ آسيا الصغرى وشبه جزيرة جاليبولي في الجانب الأوروبا وهما من الأراضي التركية.
- مِن المعروف أنّ المضائقِ المائية، البِسْفُور والدَّردنيل، اكْتَسَبت أهميةً كبيرةً على مرِّ التَّاريخِ. وذلك لأنَّها الطَّريقُ المِثالي للمِلاحةِ؛ إذ يَرْبُطانِ البَحر المُتوسِّط بالبحرِ الأسودِ. كما أنهما يُشكِّلان الحدّ الوَهْميّ بين قارتيّ أوربا و آسيا، اضافةً الى كونهما جُسورًا بين هاتين القارتين، حيث يَرْبُطان (رأس الجِسْر) الأوروبي من الأراضي التُّركية بهضبة الأناضولِ الاسيَويَّة التُّركية.
- فالمَضائِق التُّركية، البِسْفُور والدَّردنيل، يشكّلان مَمَرًّا مُهمًّا للملاحةِ وطَريقاً للمُرورِ بَيْنَ الشَرقِ والغَربِ. فقد منحت الجُغرافية والتَّاريخِ تلكَ المِنْطَقة أهميَّةً خاصّة جَعَلتها مِحْورًا استراتيجيًا عالميًا.
- الدردنيل، كانَ اسمهُ عند اليونانيين (هيلسبونت) ويعني بَحَر هيليس، نسبةٍ إلى أسطورةٍ تقولُ: أنَّ فتاةً بهذا الاسمِ ألقَتْ بِنَفسِها في مِياهِهِ. وكانَ يُعرَفُ أيضًا بِمَضيقِ أبيدوس، نسبةً إلى مَدينَةٍ بهذا الاسمِ. وقد اسْتَخْدَمَ العالِمُ الإسلاميُّ الإدْريسيُّ هذا الاسمَ.
- وسمي بمضيق الدردنيلز (Dardanelles) في اللغتين الإنكليزية والفرنسية و كذلك في اللغة الألمانية. وهناك اختلاف في أصل التسمية. فالبعض يرى بأنها ترجع إلى أسطورة يونانية وبالتحديد (دار دانوس) ابن الإله الأكبر (زوس)، مؤسس دولة طروادة. والآخر يرى بأن التسمية ترجع إلى اسم مدينة (دار دانوس) اليونانية.
- وقد سَمَّت خرائطُ الإيطاليين المضيق في العصور الوسطى المضيق بمضيق الرومان. حيث أصبح يعرف المضيق باسم الدردنيل منذ العصور الوسطى. وعرفَ عند العثمانيين باسم (بوغاز جناق قلعة) نسبة إلى القلعة التي بناها السلطان محمد الثاني (الفاتح) عام 1451 التي توسعت واصبحت مدينة بنفس الاسم.
- يَبلُغ طُولُ مضيق الدردنيل (36) ميلاً بَحْريًا. ويُطلَقُ على (15) ميلاً من المَدْخلِ اسم (المَمَرَّات الضَّيِّقةِ)، حيث يكون عَرْضُها من ميلٍ إلى ميلين. ويُصْبحُ العَرضُ عند مَدينةِ جناق قلعة التي تَقَعُ على الشَّاطئ الآسيويِّ ثَلاثة أرْباع الميلِ. وعِنْدَ مدينةِ غاليبولي (الواقعة في الجزء الأوربي) يَضيقُ المَجرى أيضًا لِيَصِلَ إلى ثَلاثةِ أرباعِ الميلِ، ويُطْلقُ عليه بِمَضيقِ غاليبولي. وبَعدَها بقليلٍ يَتَّصل المَضيقُ بِبَحْرِ مَرْمَرة.
- أما بَحرُ مَرمَرةَ فكان يُطْلقُ عليه (بروبونيتس)، والكلمةُ يونانِيَّةٌ تَعني (مُقدَّمةُ البَحْرِ)، أي البَحْر الذي يَسْبِقُ البَحْرَ الأسودَ. وأصبحَ يُطْلَقُ عليه بحر مَرْمَرة مُنْذ العُصُور الوسطى.
- يربط بحرُ مَرمرة مَضيقَ الدَّرْدَنيل بمضيقِ البِسْفور. يوجد على ساحِل مرمره الجَنوبيِّ (الآسيويِّ) خَليجُ أردك، وإلى الشَّرقِ خَليجُ مودانيا العَميقُ، وإلى أقْصى الشَّرْقِ خَليجُ أزمت، الذي يَبْلُغُ طُولُهُ (26) ميلاً وعَرْضُ مَدْخَلهِ (3.5) ميل.
- ولقَد منحت الميثولوجيا اليُونانية المَضائقِ اثارةً خاصّة بالأساطِيرِ الَّتي رَمَزَتْ إلى مَخاطِرِهما البَحريةِ واغراءاتِ التَّحدِّي. كما انّ التِّجارةَ بين بَحْرِ إيجةَ والبَحْرِ الأسودِ تَرجِعُ إلى العُصور المُبكِّرةِ، فالمُسْتَوطناتُ التي تأسَّسَتْ، والمَوانئُ التي أُنْشِأتْ، تَدُلُّ على أهميَّةِ طَريقِ التِّجارةِ هذا.
- حيث تَقَعُ بالقُرْبِ من مَدْخَلِ مَضيقِ الدَّردنيل من بَحْر إيجة مَدينةُ طِروادة Troy، التي كان لتأسيسِها تأثيرٌ كبيرٌ على أهميَّةِ المَضائِقِ والتِّجارةِ التي تَمُرُّ فيه. ويَرجِعُ سَبَبُ حُروبِ طِرْوادةَ التي حَدَثَتْ في حُدودِ عام 1200 ق.م إلى النِّزاع للسَّيْطَرةِ على مَضيقِ الدردنيل وعلى حُرِّيةِ طَريقِ التِّجارةِ إلى البَحْرِ الأسودِ. وتعدّ هذه الحُروبُ الأولى في تاريخِ النِّزاعِ للسَّيطرةِ على المَضائقِ.
- ولأنَّ المضائِقَ مثلت دورًا مُزْدوجًا في تاريخها القَديمِ كَممرٍّ مائيٍّ يَرْبِطُ البَحْرَ الأسودِ بالبَحْرِ المُتوسطِ، وكنُقاطِ اتِّصالٍ للمُرورِ من آسيا إلى أوربا وبالعَكْسِ، فقد أصبَحَت مِنْطقةُ المضائِقِ هذه مَيدانًا للصِّراعِ الفارسي- اليوناني.
- وبَرَزَتْ أهميَّةُ المَضائقِ من خِلالِ حَمْلَةِ الإسكَنْدرِ المَقدونيِّ ضِدَّ الفُرْسِ ففي عام 334ق.م عَبَرَ الإسْكَنْدر وجَيشُهُ مَضيقَ الدَّردنيل. واتَّسمَتْ أهميتهُ خلال حكم الاسكندر وخلفاءهِ بكونها الطريق الرئيس لعبور القوات من مقدونيا واليونان إلى آسيا الصغرى وما وراءها.
- وعِندما تمكَّنَ الرُّومانُ من إخضاعِ مِنْطَقةِ شَرْقِ البَحْر المتوسِّط بأكمَلِها، ومَدُّوا حُكْمَهم على المنْطَقةِ المُحيطةِ بمضائق الدَّردنيل والبِسْفور اللَّذين أصبحا (جِسْرين) يَربُطانِ أُوروبا بآسيا، إذ استَخْدمَتْهما الجُيوشُ الرُّومانيَّةُ كأفضَلِ الطُّرقِ البَرِّيةِ بينَ المُمْتَلكاتِ الرُّومانيَّة في البَلقانِ وتِلكَ الَّتي في آسيا الصُّغْرى.
- وازدادَتْ أهميَّةُ المَضائقِ خِلالِ القِرنِ الرَّابعِ الميلاديِّ عِنْدما قَرَّرَ الإمبراطور الرُّومانيُّ قسطنطين الكبير (324- 337م) نَقْلَ عاصِمَتِهِ من رُوما إلى الشَرْقِ، فكان بنِيَّتهِ بناءَ عاصِمةٍ جَديدةٍ على أنقاضِ مَدينةِ طِرْوادة التي كانت تُهَيْمنُ على مَضيقِ الدَّردنيل. ولكن لأسبابٍ عَسكَريَّةٍ واقتِصاديَّةٍ وسياسيَّةٍ، اختارَ خَرائِبَ مَدينةِ بيزنطة لِبناءِ عاصِمَةِ الإمبرطورية التي اكتَمَلَ بناؤها في العام 330م. وأطْلَقَ عليها اسم (القسطنطينية) نِسْبةً إلى اسمهِ، وأصبحت (روما الثَّانية)، وبذلك اكتَسَبتِ المضائِقُ التي تَربِطُ بينَ البَحرِ المُتوسط والبحر الأسودِ أهميَّةً استِثنائِيَّةً.
- وحاوَلتْ شعوبٌ وأقوامٌ عديدةٌ احتِلالَ القُسْطنطينية؛ فحاولَ الهُونُ والأفار والسُّلاف احتِلالها، ولكن دُونَ جَدوى. ولم تكُن مِنطقَةُ المضائِقِ بمَنْأًى عن مُحاولاتِ العَرب المُسلمين الذينَ حاولوا فَتْحَ القُسْطنطينية غير مرَّة، فقد حاصَرَها المُسلِمونَ اثنتا عَشْرة مَرَّة سَبعةٌ منها في القِرْنينِ الأوَّلين للإسلامِ، ومن أهمِّ هذه المُحاولاتِ المُحاولةُ الَّتي ضُرِبَت الحصارَ في خِلافةِ عُثمان بن عفَّان، إذ هاجمَ جيش المُسلمين مضيقَ البِسفور، ولكن دُونَ جَدوى.
رد مع اقتباس
المفضلات