سامح المحاريق: لم تكن وفاة النبي الكريم حدثا غير متوقع، أو مفاجئ، فحالته الصحية في الأيام الأخيرة من حياته شهدت تراجعا كبيرا، لدرجة أنه لم يكن يستطيع الخروج من بيته ليقوم بإمامة المسلمين في الصلاة، وكان أبو بكر الصديق يتولى الإمامة في هذه الأيام، وفي اليوم الأخير من حياته تحامل النبي على نفسه، وتوجه إلى المسلمين الذين تأهبوا لإقامة الصلاة وراء أبي بكر، وما أن رأوه يطل عليهم حتى أخذتهم فرحة استثنائية، وبينما أبو بكر يتراجع للصف الأول مفسحا موقع الإمامة للنبي، فإذا بالنبي يطلب منه أن يواصل الصلاة بهم، وكأنه اطمئن على أحوالهم، وودعهم وهم في حضرة الله عزوجل، ولم يكن ثمة مشهد يمكن أن يبعث الرضا والطمأنينة في النبي أكثر من ذلك، إلا أن خبر وفاته الذي انتقل بسرعة للمسلمين في المدينة أتى كواقعة فجائعية على جموع المسلمين، ليأخذهم شعور بفقد لم يجربوه من قبل، حالة من انقطاع صلتهم بالسماء، ضرب من اليتم لم يكونوا تخيلوه من قبل.
يرحل الركن الركين الذي أسندوا عليه وجودهم لسنوات، وبعضم كان يوم دخل على النبي في وضع المنبوذ أو الطريد، وبضعهم الآخر، كان أقصى همه أن يعامل بما يليق بالإنسان، أن يحصل على الاعتراف بأنه كائن بشري، وليس مجرد آلة للصناعة وحمل البضائع وتنظيف البيوت، وهو يوم وفاة النبي، يقف بين الرجال الذين كان يجب أن يحني رأسه وقامته مع مرورهم في الطريق، الند بالند، وإذا كان عالما وتقيا، فإنه يسبقهم في كل شيء، حتى أن آخر كلمات النبي كانت وصية بالضعفاء في المجتمع، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، العبيد والرقيق، ذلك الجمع من الناس الذي كرس النبي الكبير شطرا كبيرا من حياته وهو يساندهم ويحنو عليهم، في عالم لم يكن من المتصور أن يمنحهم بعضا من حقوقهم على الإطلاق، حتى أن بعضا من الخيول أو النياق كانت تفوقهم في الثمن والأهمية، كانت هذه صيحة مبكرة ظلت تراوح مكانها عبر الأزمنة إلى أن وجدت اجابتها قبل عقود قليلة مع منح الحقوق المدنية لمختلف البشر، وهو أمر ليس مستقرا إلى اليوم في كثير من الدول، ومع أن التمييز القانوني أصبح مجرما، إلا أن التمييز الاجتماعي ومشاعر الكبر والتعالي ما زالت موجودة، ولم تنتزع بعد من القلوب، أي شعور يمكن أن يعتري هذه الجموع بأن يرحل النبي، حتى لو كانت المسألة متوقعة ومرتقبة بين المسلمين؟
عمر بن الخطاب، الذي توجه النبي بالدعاء بأن يعز الله به الإسلام، الرجل الذي تخشاه الجموع والحشود، الذي لم يجرؤ أحد من مكة أن يعترض طريقه في الهجرة، ولم يسجل أن طاوله أو نافسه أحد لما في نفسه من هيبة ووقار، يتحول مع وصول خبر وفاة النبي الكريم إلى طفل مكلوم، ويفقد صوابه وهو الكامل العقل والرأي، فيهدد القائلين بوفاة النبي الكريم بأن يقتلهم أو يعذبهم، ولكن يتدارك أبو بكر الصديق الموقف، بأن يتماسك في الوقت الذي تهاوى فيه عمر، ليقول كلمته للتاريخ «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، وقرأ الآية الكريمة: ((وما محمد إلا رسول أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» فيثوب عمر إلى رشده، ويدرك أن أمامه وأبا بكر والصحابة المقربين مسؤوليات جسيمة في هذه اللحظات الحاسمة في تاريخ الإسلام، وأن الامتحان الذي هم أمامه بالغ في خطورته وحساسيته، فالعرب أمة ذات توجه عاطفي من ناحية، ومتعلقة بالملموس والمجسد من ناحية أخرى، ووفاة النبي تضعهم أمام قيادة هم مدفوعون إليها وليسوا مخيرين في أمرها.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اردنيه اربداويه
المفضلات