وليد سليمان - عدسة: اسامة العقاربة
طائرة ورقية في أجواء عمان تحلق مغردة بهمسٍ ..
- دعوني أسبح .. أمرح ..أحلق ..لأقترب من السماء الزرقاء .. فأنا أهوى الحرية والانطلاق .
.. وتأتي فيروز من بعيد تداعبنا وتترنم بالاحلام :
« طيري يا طيارة ..يا ورق وخيطان.
بدي أرجع بنت صغيرة.
على سطح الجيران .
في جبل النظيف
.. في أيام الطفولة وعندما تبدأ نسائم فصل الربيع تهب على جبال عمان ومساحاتها الشاسعة , يأخذ الصبيان والفتيان بالمشاركة لإعداد وصنع لعبة «الطائرات الورقية « ففي منطقة جبل النظيف حيث كنت طفلاً بالعاشرة من عمري في ستينيات القرن الماضي بدأنا ذات صيف نحن الصغار بالتخطيط لعمل الطائرات الورقية.. حيث لابد لنا من شراء خيوط طويلة وقوية وخشب قصب وورق وصمغ.
وفي محاولات عديدة وتجارب نجحنا بعمل ثلاث طائرات قمنا بتطييرها من فوق أسطح بيوتنا .
فوق مستشفى الطلياني
وفي يوم آخر انقطع خيط إحدى طائراتنا الورقية الملونة والمزخرفة بالشراشيب والذنب الجميل وهي تحلق بعيداً نحو منطقة جبل الأشرفية والمستشفى الطلياني وشعرنا يومها بهلع وحسرة وذهبنا نستطلع أمر الطائرة الورقية .. علنا نجدها ونعيد إصلاحها .. لكن دون جدوى فقد اختفت ولم نعرف أين وقعت بالضبط أو ان أحداً من الصبيان رآها وأخذها مستولياً عليها ؟! .
عمان قديماً وطائرات الورق
وعن فترة الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي حيث كانت لعبة الطائرات الورقية من أهم الألعاب الشعبية التي يمارسها الشباب في مدينة عمان المعروفة بجبالها السبعة نقرأ ما كتبه المبدع والأديب الشهير صاحب « سيرة مدينة « عبد الرحمن منيف :
إن موسم الطائرات الورقية في عمان حافل إلى أقصى درجة , كما أنه يستمر وقتاً أطول من مواسم الألعاب الأخرى , إذ تظهر فيه البراعة وقوة الاحتمال وحجم الاستعداد , إضافة الى ان التفوق في هذا المجال علني وشديد الظهور , فما أن تنتهي لعبة « القبع الصغيرة « , وهي عبارة عن المشروع الأولي للطيارة , ويمارسها الأطفال , وتشبه إلى حد بعيد , من حيث توقيت ظهورها , طائر السنونو الذي يبشر بالربيع , حتى تظهر الطيارات .
أصدقاء الريح
حين تظهر هذه الطيارات في الجو يقول العارفون : جاء أصحاب الكار وأصدقاء الريح وهم الشيوخ !
يظل الأمر هكذا لبضعة أيام , وكأنها فترة اختبار مع زيادة في الارتفاع التدريجي وأيضاً إسقاط بعض الطيارات المنافسة .
لكن مع كل يوم يمر تتقدم الطيارات نحو أماكن أعلى وفضاءات أوسع , إذ تنتقل من الملعب الصغير قرب اللاسلكي إلى نهاية مدرسة المطران , وقد تصل إلى الحاووز الكبير . وخلال هذا التقدم لا بد من حذف عدد متزايد من الطيارات المعترضة أو المعيقة , وهكذا تسقط أو تفلت طيارات كثيرة . كل ذلك يتم دون اشتباك , بل من خلال المناورة , ومن خلال بعض الإرشادات التي يسهل قراءتها , وبالتالي معرفة دلالاتها . وبذلك يخلو الجو تدريجياً , حيث لا يبقى إلا بضع طيارات .
الخميس والجمعة
وإذا كان الطابع الغالب على فترة الطيران الصراع , وبعض الأحيان العداوة , داخل كل حي , وبين الأحياء المتقاربة , وكان هذا يستمر طوال الفترة الأولى , وإلى أن يتعرف بتفوق عدد محدود من الطيارات , فإن الفترة الأخيرة من هذا الموسم يغلب عليها الاستعراض لانتزاع اعتراف الآخرين في مواجهة طيارات اللويبدة والقلعة وجبل النظيف .
كان يتم , في أغلب الأحيان , حشد إمكانيات كبيرة من أجل تصميم طائرة من طراز متقدم لتدخل الاستعراض , إذ كانت تلتقي كفاءات وجهود عدد من المتنافسين السابقين , وكان يجري توظيف المكتسبات التي تم إحرازها سابقاً لهذا الغرض . فخيوط المصيص التي أمكن وضع اليد عليها , كمخلفات لطيارات ساقطة , وما تبقى من أوراق ملونة إضافة إلى شمع العسل والشمع العادي , كلها توظف لخدمة الطائرة الجديدة التي ستدخل الاستعراض في مواجهة طيارات اللويبدة والقلعة وجبل النظيف .
وفي يومي الخميس والجمعة الأخيرين من موسم الطيران . تبدأ الطيارات استعراضها . كان القادة يتفننون في مد الخيوط , في جرها , وأيضاً بالقيام بعدد من الألعاب الجديدة المثيرة , للدلالة على المهارة والفن .
كان ذلك يجري وسط جمهور واسع , شديد الحماس , يعرف كيف يتابع ويقارن دون تقديم سوى ملاحظات قليلة , وبصوت أقرب إلى الهمس , لأن هناك ربانين اثنين ماهرين يقودان الطائرة , واحد يمسك بالخيط , والآخر , على بعد بضعة أمتار يمسك بكبكوبة الخيوط الملفوفة بإتقان بالغ على قضيب قوي . وإذا كانت مهمة الأول توجيه الطائرة , فإن الثاني يعطي الخيط , يلفه , بمقدار ما تتطلبه الضرورة . يفعل ذلك دون أمر , دون إيعاز , اعتماداً على حركة الآخر , وعلى مراقبة الطيارات المنافسة . كان ذلك يستمر حتى الغروب . اليوم الأخير يوم حافل , فبعد أن تبلغ البراعة ذروتها في ارتفاع الطائرة , وفي تهاديها ورقصها في الهواء , وسط المراقبة التي لا تهدأ لحظة واحدة , وبعد أن يفترض كل جبل أن طائرته كانت الأعلى , وكانت الأهم في هذا الاستعراض , وقبل أن تغيب الشمس , كان يطلق سراح هذه الطيارات , كلها أو معظمها .
واحد ..اثنان ..ثلاثة
كانت لحظة إطلاق الطائرة حافلة , خاصة , تختلف عن أية لحظة غيرها . فما أن يتعرى القضيب من الخيوط , وينكشف عن عقدة في وسطه , مربوطة بإتقان وقوة , ويراها الجميع , كدلالة أخيرة أن لم تبق خيوط إضافية , حتى يتقدم الكثيرون للإمساك بالقضيب , للمشاركة في توجيه الطائرة , وكأنهم يمنحونها أسرارهم الخاصة , وبعد أن ينظر الجميع إلى وجوه بعض , إلى الطائرة , وفي لحظة مناسبة يصرخ أحد القائدين , وبعض الأحيان , الاثنان معاً : واحد .. اثنين .. ثلاثة .. ويفلتان القضيب .
ما يكاد القضيب يفلت من الأيدي حتى يميل قليلاً وهو يرتفع , وهو يصعد . يكون أول الأمر رخواً , متدلياً , لكن ما إن يرتفع أكثر حتى يعتدل , يأخذ شكل الخيط , وقد أحس بالحرية والقوة بعد طول اعتقال . وهو يرتفع هكذا ترافقه الصرخات والتصفيق تشجيعاً , تأييداً , تحية وداع . لقد بدأت الطيارة مشوارها الخاص , إذ بعد أن كانت تدوم وتحوم في مكان واحد , مع ميل صغير في هذا الاتجاه أو ذاك , لا تلبث أن تحس بالمدى , فتبدأ رحلتها الجديدة , يتم ذلك الانسجام مع الريح
ولحظة بعد أخرى ترتفع الطيارات , تغيم , إلى أن تبدأ بالتلاشي ثم بالغياب . تغيب تماماً .
الى سحاب ..الى مأدبا.
مع غيابها , وأثناء عودة الأولاد إلى بيوتهم يكون الرهان الوحيد بينهم : هل واصلت الطيارات تحليقها إلى السبع بيار أم تجاوزتها إلى سحاب ... أو ربما تابعت ألى مأدبا أو أكثر !؟
عصر كل يوم , من هذه الأيام في سماء عمان , تتكاثر وتتسابق الطائرات الورقية الملونة بكل الألوان , والمزركشة بكل الأشكال من اعلام اردنية ورسوم وأزهار وأقنعة وزخارف متنوعة وهي تعانق الهواء بفرح .
طائرات عمان الآن
تسير في شوارع عمان وتنظر الى اعالي الجبال المحيطة , فتشعر بمتعة المشاهدة لأسراب طائرات الاولاد الورقية البعيدة في السماء , فيما هي تحلق في سماء عمان وبالعشرات فوق جبال الاشرفية والنصر والنظيف والأخضر والقلعة , وجبال اخرى كثيرة وفي الاماكن الفسيحة كذلك .
انها تسلية ولعبة ملفتة للنظر وخاصة بأطفال وفتيان عمان في هذه الفصل بالذات , لان هذه اللعبة الآخذة بالانتشار تدخل في نفوسهم البهجة والسرور صنع أم شراء
وفي جولة على بعض الأماكن التي تباع فيها الطائرات الورقية الجاهزة , وشاهدنا ورشة عمل صغيرة لصنعها , وقد كانت اسعارها تتراوح ما بين الدينار والدينار ونصف ,وذلك حسب حجم الطائرة , أما الجديد في تلك الطائرة فان تقنيتها قد اختلفت عما كان سائداً في القديم !
فقد استبدلت الاوراق بأغشية ملونة من النايلون الخفيف وذلك لأنها اقوى من الورق ولا تتمزق بسهولة , ثم ان خيطان الطائرة قد اصبحت من خيوط البلاستيك الرفيعة , وخشب القصيب قد استبدل بخشب ابيض عادي خفيف الوزن .
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سمير محمود ابوزيد
المفضلات