معاريف - دمتري شومسكي
(المضمون: كان الحرص على انشاء أكثرية يهودية في فلسطين وسيلة للحركة الصهيونية في بداية طريقها لكنه أصبح هدفا بعد ذلك وهذا يهدد وعي الأكثرية اليهودية نفسها - المصدر).

من المعتاد اعتقاد أن انشاء أكثرية يهودية في ارض اسرائيل كان من أهم أهداف الصهيونية، ولكن الامر ليس كذلك لأن احراز أكثرية يهودية لم يكن هدفا بل وسيلة. كان وسيلة لجعل الشعب اليهودي «أمة دنيوية... وشعبا مُركزا في ارضه قائما بذاته» (كما كتب دافيد بن غوريون في مقالته «نحن وجيراننا»).
لكن حينما أُحرزت الأكثرية وانشأ الشعب اليهودي دولة وقام بذاته انقلبت الامور رأسا على عقب. ففي فترة دولة اسرائيل وأكثر من ذلك في فترة دولة ارض اسرائيل، تحولت الوسيلة السابقة (الأكثرية اليهودية) الى هدف، في حين تحول الهدف الذي أُحرز (الدولة ذات السيادة) الى وسيلة تخدم الهدف الجديد وهو زيادة الأكثرية اليهودية والحفاظ عليها.
لا يقوم في جبهة المجابهة السكانية للأساس غير اليهودي من مواطني الدولة، وهو أول وأكبر التحديات التي تعترض صهيونية سنوات الألفين، لا يقوم حفظة الفرائض الدينية من مؤيدي «نظرية الملك» ومُبتدعي «الخطط السكانية الخلاقة» من حركة اليمين المتطرف «اذا شئتم» (كما اقترح رونين شوفال في منشوره من اجل صهيونية متجددة). ان كثيرين من أنصار فكرة الدولتين الذين يُمجدون التساوي في حقوق المواطنة يؤيدون تقاسم البلاد أساس عن رغبة في جعل الأكثرية اليهودية في الدولة مستقرة في مواجهة المواطنين العرب الفلسطينيين.
لكن كيفما قلبنا قطعة النقد للجدل السكاني في الأكثرية اليهودية فان الجانب الثاني المظلم منها هو هوى قلب خفي صيغته: «يحسن ان يكون في الدولة أقل عدد من العرب». هل يمكن ان تُدار بصورة ناجعة سليمة دولة مواطنوها أبناء أكثر من شعب واحد في حين يُفهم من سياستها ومن خطاب مسؤوليها الكبار اهتمام واضح بمضاءلة العدد النسبي لمواطني واحد من الشعوب؟ وكيف يمكن ان نتوقع من المواطنين العرب الفلسطينيين ان يكونوا مخلصين للدولة التي توميء اليهم في واقع الامر بأنها ستكون سعيدة اذا لم يعش أولادهم فيها؟.
ومع ذلك ان رؤية الحفاظ على الأكثرية اليهودية باعتباره هدف الوجود السيادي لدولة اسرائيل لا يُضعف المكانة المدنية للأقلية العربية في الدولة فقط بل قد يضعضع ايضا بالمعنى العميق وعي السيادة عند الأكثرية اليهودية نفسها. لأن الاستمرار في روح النضال من اجل أكثرية يهودية والتي كانت موجودة قبل نشوء الدولة تجعل الأكثرية اليهودية تتوهم أنها ما يشبه أقلية في فترة ما قبل السيادة ما زالت تحارب عن حقها في تقرير المصير. وتكون النتيجة انه بدل وعي «الأمة الدنيوية» التي تقف بذاتها، تأخذ في السيطرة على الشعب اليهودي ذي السيادة، عقلية طائفة عرقية – دينية جالية في حرب بقاء دائمة.
ان هذا النكوص الى وضع وعي أقلية في واقع دولة ذات سيادة هو خلل حقيقي في تطور الصهيونية يصعب ان نبالغ في وصف خطر آثاره اذا لم يُصلح لأن الأكثرية القومية السيادية التي تتوهم مرة بعد اخرى أنها أقلية في خطر فناء سكاني قد تكون خطرا على بيئتها المدنية والسياسية وعلى نفسها ايضا في نهاية الامر.
قبل المحرقة قال بن غوريون حينما كان ما يزال يؤمن بقيم العدل والمساواة في العلاقات بين الشعوب، فيما يتعلق بعلاقات اليهود مع العرب في البلاد: «ربما تكون هذه رسالة اخلاقية للشعب اليهودي ان يقتلع من الوعي السياسي القانوني مصطلحات علاقات سياسية بين الشعوب تتقرر على أساس الأكثرية والأقلية. ومن غير هذا الأساس الاخلاقي لن يكون لنا وجود لا في العالم ولا في ارض اسرائيل». من المناسب لمواجهة أخطار اجتماعية وسياسية وجودية على المواطنة وعلى وعي السيادة الاسرائيلية الذي يشتمل على وسواس الأكثرية اليهودية ان نلتزم من جديد بكلام بن غوريون هذا في الخطاب العام والسياسي. وينبغي ان نتخلى عن خطاب الأكثرية العرقية الدينية الذي ينقض عُرى المواطنة الاسرائيلية قبل فوات الأوان وأن نبدأ بصوغ روح عامة قطرية مدنية مشتركة لجميع مواطني الدولة من اليهود والعرب.