بلاد الكفر في هذا الزمان
لقد كانت الخلائق في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب (1)، والمراد بالمسالمين له الآمنين الذين كانوا أهل ذمة ، وأما الأرض ،
فكانت قسمين : أرض الإسلام وهي التي يدين أهلها بالإسلام ، أو يخضعون لحكمه بأداء الجزية ، وأرض كفر وهم المحاربون للإسلام .
وهكذا استمرت الأرض في عهد أصحابه رضي الله عنهم ، إما بلاد إسلام و إما بلاد حرب ، والبلدان التي كانت تعقد هدنة مؤقتة مع المسلمين هي بلاد حرب ما لم يؤد أهلها الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام .
أما الآن فإن بلدان الكفار إذا تأملت واقعها ، وجدتها تنقسم إلى أقسام: منها ما هي دار حرب ، لأنها معلنة الحرب على الشعوب الإسلامية كما هو الحال في أرض فلسطين التي احتلها اليهود و شردوا أهلها ولا يزالون يشردونهم ويقتلونهم .
والذي يبدو أن لا فرق بين دور الحرب في الماضي من حيث عدم جواز زواج المسلم بالحربية فيه ، لما مضى من الأدلة القاضية بذلك ، ولكن المسلمين لا زالوا كثرة في هذه الدار ، يصعب معه أن يطبق عليهم حكم دار الحرب فيمنعون من التزاوج فيما بينهم أو من قصد الولد ، لأن التزاوج وقصد الأولاد والإكثار من النسل قد يكون في صالح المسلمين ليستمر صراعهم لأعداء الله لإجلائهم عن بلدانهم ، ولو أوجبنا عليهم الهجرة من بلادهم بسبب أنها بلاد حرب إلى بلاد الإسلام لما وجدوا من يقبلهم مهاجرين في البلدان الإسلامية ، ثم إن في هجرتهم من بلادهم إلى غيرها فرصة لليهود ليستقلوا بها وضياعاً لتلك الأرض ، لهذا يبدو أن حكمهم في التزاوج فيما بينهم حكم المسلمين في بلاد الإسلام ، وحكم زواجهم بالكتابية حكم زواج المسلم بها في دار الحرب .
ومن تلك البلدان من يعلن أهلها الدعوة إلى السلم وعدم إرادة الحرب مع الشعوب الإسلامية وغيرها ، وهي ذات صفتين : صفة تبدو بها أنها ليست دار حرب ، وهي صفة المعاهدات والاتفاقات الدولية التي يترتب عليها تبادل السفراء والتبادل التجاري والاقتصادي و الصناعي والثقافي وما أشبهه ، فهي بهذا شبيهة ببلاد العهد في العصور الإسلامية السابقة إلا أن العهد في هذا العصر يتخذ صفة الدوام ، وليس على أسس إسلامية ، وغالب المعاهدات تكون المصالح فيها راجحة لبلدان الكفر ، ومن الأمثلة على هذا القسم أمريكا وبعض دول أوربا وغيرها كروسيا .
وإذا نظرت إليها من جهة أخرى وجدتها ذات صفة ثانية وهي دار حرب وذلك من ثلاثة جوانب :
الجانب الأول : أنها تساعد الدول المحاربة للمسلمين بالمال والسلاح والغذاء والخبراء والإعلام وكل ما تحتاجه الدول المحاربة .
الجانب الثاني :أن أساطيلها البحرية وأسرابها الجوية ، وجحافلها البرية مستعدة في أي لحظة لغزو أي دولة أو شعب من الشعوب الإسلامية التي لا يخضع حكامه لسياساتهم وتوجيهاتهم .
والجانب الثالث :أنها تسعى لإيجاد أحزاب تؤيدها في داخل الشعوب الإسلامية ، تحارب الإسلام والمسلمين ، وهي تمدها بالمال والتوجيه والسلاح ، وتدفع تلك الأحزاب للقيام بانقلابات في داخل الشعوب الإسلامية من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين ، وتكفي هذه الجوانب الثلاثة لعد تلك الدول الكافرة دول حرب وبلادها بلاد حرب (2) وإن كانت الشعوب الإسلامية غير قادرة في الوقت الحاضر ، بسبب ضعفها و تفرقها أن تعامل تلك الدول الكافرة معاملة الحربيين في كثير من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية ، كدعوتها إلى أحد أمرين : الأمر الأول : الدخول في دين
الله ، والأمر الثاني : أداء الجزية والخضوع لأحكام الإسلام العامة ، فإن أبوا فجهادهم في سبيل الله ، كما كان ذلك دأب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولاً وفعلاً ، وعليه مضى السلف الصالح عندما كانوا متمسكين بدين الله .
حكم زواج المسلم بالكتابية في دارالكفر اليوم
سبق أن جمهور العلماء على جواز نكاح المسلم الكتابية في ديار الإسلام مع الكراهة ، وبعضهم يرى جواز ذلك في ديار الحرب مع الكراهة الأشد ، وبعضهم يرى تحريم ذلك في ديار الكفر .وأن بعض السلف يرى التحريم مطلقاً في ديار الإسلام وديار الكفر .
وسبق أن بلاد الكفر في هذا الزمان ليست دار حرب محضة كما كانت دار حرب في الماضي ، وليست دار عهد محضة ، فهي بلاد حرب غير مباشرة ، كما هو الحال بالنسبة للدول التي تساعد اليهود ضد المسلمين بالمال والسلاح والرجال وغيرها ، وهي مستعدة للحرب المباشرة في أي لحظة ، كأمريكا وأوربا وروسيا ، وهي أيضاً بلاد حرب مباشرة كما هو الحال بالنسبة لأفغانستان ، وأنكى من ذلك أن تلك الدول تحارب المسلمين بالمسلمين ، حيث تنظم الأحزاب الموالية لها وتساعد على ضرب شعوبها بالسلاح .
وهي شبيهة بدار العهد ـ في الجملة ـ من حيث الاتفاقات الدولية و تبادل السفراء ، والمعاملات الاقتصادية وغيرها .
وكثير من الاتفاقات الدولية المبرمة بين دول الكفر والشعوب الإسلامية تكون في صالح دول الكفر أكثر مما هي في صالح الشعوب الإسلامية ، بل الضرر الذي يلحق الشعوب الإسلامية من تلك الاتفاقات أكثر من النفع الذي يحصل منها.
كما أن بعض المعاهدات تخالف مقاصد الإسلام ، وأهم ذلك إبطال الجهاد في سبيل الله ، الذي هدفه الأول الدعوة إلى الله ودخول الناس في هذا الدين ، أو خضوعهم لنظامه العام بدفع الجزية وإلا قوتلوا ، كما كان عليه الرسول صلى الله وأصحابه والسلف الصالح ،وهو الحكم القائم إلى يوم الدين (3).
وسبق بيان حالة المسلمين في ديار الكفر ، وأنهم معرضون للذوبان في المجتمع الكافر ، وأن بعضهم يرتد عن الإسلام ، وبعضهم يبقى مسلماً بالاسم والانتساب ، وهو قد ضاع في تلك المجتمعات الكافرة ، والناجون من ذلك قليل .
فإذا نظرنا إلى ديار الكفر من جهة ما تقوم به من حرب مباشرة ضد المسلمين ، أو غير مباشرة ، فإن القياس يقتضي تحريم زواج المسلم بالكتابية فيها قياساً على تحريم ذلك عند بعض العلماء في دار الحرب ، وإذا نظرنا إليها من جهة ما بينها وبني حكام الشعوب الإسلامية من معاهدات واتفاقات ، فالقياس يقتضي إباحة الزواج بالكتابية في ديار الإسلام ـ وإن كانت لا تعتبر ذمية ولا حربية ـ أما الزواج بها في ديار الكفر التي فيها شبه بدار الحرب المحضة و شبه بدار العهد فإن فيه إشكالاً ، لأن هذه الدار التي هذه صفتها جديدة لم تكن موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، و لا في عهد خلفائه لأن الديار كلها كانت إما دار إسلام ـ ويدخل فيها أهل الذمة ـ وإما دار حرب ، ويدخل فيها دار العهد المؤقت ـ وعندما كان المسلمون يتزوجون بالكتابيات إنما كانوا يتزوجون بهن في ديار الإسلام ، وديار الإسلام كانت محكومة بشريعة الله و المجتمع فيها كان مجتمعاً إسلامياً ،والكتابية ذمية وليست حربية وإسلام الكتابية التي يحيط بها المجتمع الإسلامي الذي تطبق فيه أحكام الإسلام في المنزل والمسجد والشارع مأمول ، وتربية أبنائها على الإسلام و تنشئتهم على مبادئه وآدابه هي الأساس ، لأن البيئة كلها تساعد على ذلك : الأسرة، و الجيران ، والمسجد ، ودور العلم ، والمجتمع كله ، لأن القوة في كفة الإسلام و المسلمين ، والمرأة أقرب إلى التأثر بالإسلام من التأثير في ولدها بالكفر وعاداته .
ولو فرض أنها حاولت التأثير فيه فإنها ستفشل ، وإذا علم الزوج أو أسرته أو أي مسلم بذلك يبادر إلى إحباط تلك المحاولة ، ولو تقدمت بشكوى إلى القضاء تطلب فيها الاستقلال بتربية أولادها ، فإن الشرع الإسلامي لا يبيح لها ذلك ، بل يحكم بالإشراف على الأولاد و تربيتهم لمن في إشرافه و تربيته مصلحتهم في دينهم ،ولا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
وإذا فرض أن زوج الكتابية تساهل معها في تربية أولاده، فإن المسلمين لا يسكتون عن ذلك ، لتمسكهم بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،إما من قبل المحتسبين من المجتمع ، وإما من قبل الحاكم المسلم هذا بالنسبة لدار الإسلام .
--------------------------------------------------------------------------------
(1)- زاد المعاد (3/160
(2)- وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً ـ في مدة عهدهم ـ حرباً على المسلمين بسبب إعانتهم بني بكر ـ الذي دخلوا في عهدهم ـ على خزاعة ـ الذين دخلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانت إعانتهم لهم بالسلاح . راجع في ذلك تفسير الإمام البغوي ، رحمه الله (2/266-267).
(3)- يأتي إبطال الجهاد من حيث دوام المعاهدات بين حكام الشعوب الإسلامية والدول الكافرة ، مع أن كثيراً من تلك المعاهدات فيه إجحاف بالمصالح الإسلامية .
المفضلات