جامعاتنا.. والتحليل السياسي!
جامعاتنا.. والتحليل السياسي!
في ظل الطفرة في وسائل الإعلام والفضائيات، والتي احتلت فيها نشرات الأخبار السياسية حيزاً كبيراً ، دخلت في قاموس حياة المواطن العربي تسميات ومصطلحات جديدة مثل : محلل سياسي ، أو مفكر سياسي واستراتيجي...الخ، وكل يوم يطل علينا عبر هذه الفضائيات عشرات المحلليين السياسيين ليدلوا بدلوهم في تحليلات حول الأحداث والقضايا الراهنة كل حسب ما يرغب ويعتقد أنه الصح أو الأقرب منه.
المتتبع للبانوراما السياسية يمكن أن يصنف هؤلاء الكتاب أو المحلليين السياسيين ضمن ثلاث فئات: الفئة الأولى : هم المحللون السياسيون الذين يعبرون عن رأي نظام من الأنظمة السياسية أو يمثلون فكر وايديولوجية معينة .
والفئة الثانية : هم اولئك الذي يدلون بآرائهم من موقع المركز الذي يحظون به سواء كانت جهة حكومية أو غير حكومية ويبدو أن هؤلاء غالبيتهم موجودون في اوروبا والولايات المتحدة وثمة القليل منهم في العالم العربي ويمارسون عملهم كمهنة تقوم على الاستقراء والاستنتاج .
أما الفئة الثالثة : فاولئك الذين امتهنوا منهة التحليل السياسي واستمدوها من اطرهم التي ينتمون اليها وجاءت كنتاج للعمل الاصلي أو ما يسمى بهواية سد الفراغ. هذا وقد دفع الغموض الذي يكتنف السياسة و رغبة الناس في معرفة ما يدور ما وراء الكواليس واستباق الحدث قبل وقوعه الى جعل التحليل السياسي عند البعض مهنة يمكن استثمارها بشكل قائم على الاستنتاج والتشخيص والاستقراء والتفسير الا انها ليست صانعة للحدث أو موجهة له .
وبالتالي فإن فن التحليل السياسي بشكل عام لا يختلف من حيث المبدأ النظري عن أي علم تحليلي آخر، فكما يقوم الطبيب بتشخيص وتحليل المرض وذلك من خلال سؤال المريض عما يشكو منه من أعراض جانبية ثم يقول بفحصه بمختلف الوسائل التكنولوجية الحديثة المتوفرة، ومن ثم يختار الدواء المناسب او ربما القريب لذلك المرض في محاولة منه لتخفيف الألم او تسكينه فكذلك المحلل السياسي ا الذي يدرس حالة المشهد السياسي الداخلي او الدولي وإشكاليات الظواهر المحيطة به بطريقة مهنية خاصة تكمن في مجال اختصاصه السياسي وذلك بدارسة الظواهر السياسية المعنية وتحليلها، وباختصار فان فن التحليل السياسي هو (عملية إدراك الموضوع، وتفكيكه لتحديد المؤثرات والأسباب بغرض الوصول لفهم واضح ونتيجة تعي المتغيرات، وقد قسم العديد من الأساتذة والمفكرين هذا الفن إلى عدد من الأقسام والمراحل وأولها إدراك القضية وتعريفها ومن ثم تفكيك القضية وتحديد الأسباب الرئيسية وأخيرا تحقيق الترابط ضمن رؤية وصولا لرأي أو نتيجة).
وقد ظهر هذا العلم الأساسي في السياسة الدولية منذ القديم، بحيث أننا لا نستطيع أن نعزوه لجيل ما او فرد بعينه، ولكن ما نستطيع أن نشير هنا إليه هو إبداعات البعض وإخفاقات الآخرين على مستوى هذا العلم من حيث الأشخاص او الدول، فهذا الفن على سبيل المثال عرفه الإغريق والرومان وغيرهم من الإمبراطوريات القديمة، كما أبدع فيه عدد من الأشخاص في ذلك العهد كأفلاطون وأرسطو وزرادشت على سبيل المثال لا الحصر، بحيث استطاع أولئك العباقرة في فن التحليل بشكل عام والسياسي بشكل خاص من أن يؤسسوا لهذا الفن مدارسه الخاصة به، أما في العهود المعاصرة الوسطى فقد كان لجان جاك روسو و جون لوك ونيقولو ميكيافللي وغستاف لوبون وغيرهم، وهم من ابرز عمالقة هذا الفن وكان لهم الدور الأساسي والأول في وضع حجر الأساس لهذا العلم في زماننا هذا، كما قامت العديد من دول العالم حديثا بالاهتمام بهذا العلم بشكل خاص لما له من أهمية قصوى وبارزة في خلق وإيجاد وتوفير البيئة المناسبة والسليمة لاتخاذ القرارات السياسية والخطط الإستراتيجية الداخلية او الخارجية كالولايات المتحدة الاميريكية وأوربا وبعض الدول الآسيوية و العربية، كما أبدع فيه العديد من الأساتذة الذين أسسوا ووضعوا القواعد الأساسية لفن وعلم التحليل السياسي بشكله الحديث.
لا أريد أن أتطرق في هذا السياق إلى افتقاد الجامعات الى تدريس هذا العلم ضمن تخصص العلوم السياسية أو العلاقات الدولية فكم كنت أتمنى لو دخل علينا استاذ وطلب منا نحن خريجو العلوم السياسية أن نحلل قضية راهنة، للأسف لم يحصل ذلك ، لربما لهذا السبب وغيره الكثير هو ما يجعل معظم المحلليين السياسيين العرب يتعاطون مع مسألة التحليل السياسي بناء على قناعات وتصورات لكأن عملهم يشبه عمل المنجمين في أوجه كثيرة من حيث رسم المحلل قصة من بنات افكاره قائمة على الوهم ، ومعتمداً على قدرته في التأثير على المتلقي المشاهد والعمومية في سرد الاحداث وغموض مصدر المعلومات! لست هنا بصدد توجيه سهام نقدي للمحلليين بشكل عام ، بينما اختص الفئة التي هبطت على أعمدة التحليل السياسي وانتقت القاباً أكبر منها ،هؤلاء الذين لو تتبعنا تحليلاتهم السياسية المبثوثة لوجدناها أنها بعيدة كل البعد عن الواقع الذي تنبؤا به بل أن كثيراً منها يثير السخرية ويعبر عن مدى الاستخفاف بعقل المواطن العربي لا بل أن تلك التحليلات المضللة منذ حرب الخليج الثانية لغاية اليوم كان لها اثراً كبيراً على الرأي العام والتي لربما ساهمت في اطار تشكيل بنية الوعي بطريقة مشوهة.
وعود على بدء نقول أن التحليل السياسي يجب أن يكون قائماً على الفهم الصحيح والعقلاني للقضايا وفق منهجية تتضمن الفرضية والاستنتاج وليس على أساس الأفراد أو المذهب أو الدين أو الحب والكره أو الاجندات الخارجية، ويجب أن يكون التحليل السياسي علما أكاديمياً مبني على أسس صحيحة وليس صنعة لمن لا صنعة له...
ما نحتاجه اليوم هم اولئك الذين يستحقون لقب ( محلل سياسي) مثقفين يساهمون في تشكيل الوعي لا في تضليله، ممتلكين أدوات حرفية ومهنية عاليه ، ما نريده هم اولئك المحلليين الذين تكون تحليلاتهم قائمة على أقصى درحات الموضوعية يمارسون عملهم كمهنة تقوم على الاستقراء والاستنتاج ولا نريد محلليين يستمدون معطياتهم من هذيانات تضليلية وتحليلات تنجمية
خالد وليد محمود كاتب وباحث
رد مع اقتباس
المفضلات