ما قرأت عن عالم أو زعيم إلا وجدته قليل الكلام، كثير الصمت، وهي حالة لا تنطبق فقط على العلماء والزعماء، فالله يؤتي الحكمة من يشاء.

من الناس من يحضر في مجلس من المجالس ويظل صامتا لا يتحدث إلا إذا هدأ المثرثرون وعشاق الكلام، وفرغ أصحاب الآراء والمتبرعون بالإجابة عن كل سؤال.. كما أن هناك نوعا من الناس لا يتحدث إلا إذا طُلب منه الكلام أو وُجه إليه سؤال.

أعرف رجلا "بوهالي" لا يتكلم إلا نادرا، ورغم أن الناس يعتبرونه قد طار له الفرخ، إلا أنه إذا تكلم نطق بالحكمة.. كان يأتي عندي إلى الدكان باستمرار. قال لي ذات يوم:

- "تجنب في بيعك وشرائك ثلاث قافات.."

قلت وما هي؟

قال:

- " الطّـلـق.. والغـلـق.. والـفسق".

طبعا وجدت كلامه على صواب، لكن بعد أن فات الأوان.

والواقع أن معظم هؤلاء الذين يملكون ألسنتهم وأنفسهم عند الكلام يقولون كلاما صائبا، إن لم يكن حكيما، لأن الكلام في وسط الناس شهوة لا تقل عن الشهوات الأخرى في شيء، إذا انطلق فيه المرء وأفرط أضرّ به وأضرّ بالآخرين أفدح الضرر.

الكلام قد يؤثر في مجتمع بأسره فيغرق جماعة أو يهدم أسرة، وما أكثر الإنسان في الكلام إلا ندم على بعض ما قال، وما تكلم إنسان إلا وراجع نفسه بعدها وقال يا ليتني لم أقل كذا وكذا.. ويا ليتني سكتت عن هذا وأعرضت عن ذاك.

وأكثر ما يندم عليه المرء من كلام هو الكلام على الآخرين في المجالس والتطاول على أعراض الناس، وكشف عورات من ستر الله عليهم.

وقد يجد الواحد منا نفسه أحق من غيره بالكلام في بعض المجالس، لعلم عنده لا يتوفر عند غيره، ولكنه إذا ما وضع نفسه على مائدة أهل الهوى والثرثرة الفارغة والقيل والقال، قلل من قدر نفسه وناله من الأذى ما لا يرضاه.

وهناك فرق كبير بين الذي يلزم الصمت ولديه الكثير، وبين الذي يلزم الصمت وليس لديه ما يقول، وينكشف هذان النوعان من الناس في المجالس العامة والإجتماعات، حيث يحاول كثير من الحضور إظهار عضلاتهم اللسانية واستعراض معلوماتهم واستذكار ما تعلموه أمام الآخرين، لدرجة أن البعض ينسى أن المجلس قد يضم من هو أعلم منه.

وأسوأ أنواع المتكلمين هؤلاء الذين لا يدعون مجالا لغيرهم في الكلام، وهؤلاء الذين يقاطعون غيرهم إذا تكلموا، وهؤلاء الذين لا يسمعون الناس ويتشاغلون بشيء آخر أثناء حديث الغير، وإذا تلكموا أرادوا الناس أن تنصت لهم.

ومثل هذا النوع من الناس لا يؤتمن على سر، لأنه لا يملك سر نفسه.

ومن الناس من يقول الحق والصدق ويهدي إلى الخير، لكنه يطيل فيه ويعيد ويزيد ظنا منه أن ذلك يلقى استحسان الناس، لكنه لا يلبث أن يصيبهم بالملل، فما سمعت بشخص ناجح يمتلك قلوب الناس إلا وكان قليل الكلام، كثير الإيجاز.. وهؤلاء الناجحون هم الذين يعملون بالقول العربي: "خير الكلام ما قل ودل"، وإذا كانوا في اجتماع كانوا آخر من يتكلم، وأقل من يتكلم، وأفضل من يتكلم، وهم لا يزجرون أحدا ولا يعرضون عن أحد، ويمتلكون قدرة فائقة على الإنصات للأخرين.