يا بنيّ إذا أنا مِتّ فوصيتي إليك أنْ تغسّلني أنت وأخواتك...واحذر يا بنيّ أن يدخلَ معكمْ أحد كائناً من كان...واحرص يا ولدي أن تسترني جيداً فلا تكشف لي عَورة.."
بهذه الكلمات كانتْ أمي – وقد ناهزت السبعين من عُمرها – توصيني دائماً، لتلقيَ بظلال الحزن على كل مجلسٍ يضُم شتاتَ الأسرةِ بعد إذ فرقته تصاريفُ الدهر...ثم تختمُها بابتسامة تحكي إحساسها بدنو أجلِها. فأقول لها " أرجو أن يسبقنيَ الأجلُ قبل أن أذوق مرارة فقدكِ" فتنتهرني بلسان الشوق إلى لقاء ربها قائلة " لا" ، ثم تخنقها العبرة فأسكتُ مطرقاً رغبة في رضاها ...
وكأيُّ ولدٍ كنت أسمع هذه الكلمات من أمي ...لكنني أبداً لم أتخيلْ في لحظة ما أنّ حروف اللغة كفيلة أن تسعفني بنطقِ أيّ كلمة أريد إلا كلمة "أمي" ...تلك هي لحظةُ فِراقها
وتمرّ الأيام وتتوالى الليالي ويأذن الله لمرضِ الموتِ الأخيرِ أنْ يزورَ أمي ليلة الخامس والعشرين من رمضان 1429هـ وهي تتوضأ لصلاةِ المغرب...لأقفَ فجأة أمامَها وقد أسلمَتْ جوارحَها ودخلتْ في غيبوبةٍ امتدتْ ثماني ساعاتٍ في غرفةِ العنايةِ المركزةِ...ثم أفاقتْ فجأة فأفاقَ معها قلبي وجسدي ورجائي...فنهَضَتُ من عندِ قدميها وقد تنعمتُ بالتزامِهما وترغيم وجهي عليهما ، فدنوتُ منها وسألتها " هل من شيء أصنعُه لكِ أمي؟ " فأشارتْ بيدها إلى فمِها فعلمتُ أنها تريدُ الماءَ..أسرعتُ نحوَ الثلاجةِ ومعي كوبَ ماءٍ، لكنّ رحمةَ الطبيبِ وأمانتَه المهنية حالتْ دون تحقيقِ أمنيتِها.. "لا ...احذرْ، تستطيع فقط أن تبللَ شفتيها بنقاطٍ خفيفةٍ حتى لا تتضاعفَ حالتُهـا " ...لم أكنْ أبخلَ مني تلكَ الساعة عليها برّاً بها ، فما نالته من قطراتِ الماءِ من يدي لا يكفي لإرواء طفلٍ حديثِ الولادة... لكنها أوامرُ الطبيبِ التي لا أُحسِن تجاوزَها
لا مشكلةَ...المُهم أنها أفاقتْ وستخرجُ أمي من المستشفى ثم تعودُ معنا إلى البيت ونجلسُ ونتفكّه ونتسامرُ وأعوضُها ماءَ المقلتينِ عن العطشِ الذي أصابها .... هكذا بدأ الأملُ يتسللُ إلى قلبي ، ولكنّ صراحةَ الطبيب قطـّعتْ نياطَ آمالي " من غير المتوقعِ علمياً أنْ تتجاوزَ أمُكم أربعاً وعشرين ساعةً وهي حية، ذلك أن الجلطةَ القلبية التي أصابتها نسبة نجاحِها في أحسن المراكزِ الطبية في العالمِ لا تتجاوز ثلاثة ً من مائة ...عندها أيقنتُ أن العطشَ رفيقَـها حتى تلقى اللهَ فتشربَ عنده
وما هي إلا ساعاتٌ قلائلُ حتى غلبتْها سكراتُ الموت التي لم ولن يفلِتَ منها أحدٌ ... ثم تأبى أمي إلا تُعيدَ شريطُ الذكرياتِ وتكرّرُ الوصيةَ ، لكنها هذه المرة وصيةُ مودِّع إلى غير رجعة " غسلني بيديك ومعك أخواتُك ، ولا يدخلْ عليّ أحدٌ غيركم ...واحذرْ يا بنيّ أنْ تكشفَ لي عورةً "
كان هذا آخرَ ما سمعتُ منها ...وأجملَ ما سمعتُ منها ... إنها الحشمةُ والحياءُ والعفةُ... رحمِك اللهُ أي أمي أنا ولدك وهؤلاءِ بناتكِ وأنت مَيْتةُ لا حراكَ فيكِ.. لا ضيرّ يا ولدي فلئن مات الجسدُ فإن الحياء حيٌّ .
ثم رفعتْ أُصبِعَ السبابةِ متشهدةً وقدْ أسكتتْ غصةُ الموتِ لسانَها وفاضتْ روحُها...
رحمكِ الله يا أمي لقدْ أبقيتِ لي في الصالحاتِ الطاهراتِ ذكرى والموعد الجنة بإذن الله
هذه القصيدة إهداء إلى روحها الطاهرة
http://www.4shared.com/audio/RYq9yqZ_/___.html
المفضلات