.. زمان كان للسينما حضور طاغ, وكانت تشكل متعة هائلة للفرد, اتذكر سينما (ريفولي).. كنا نذهب اليها حين كان العمر طرياً والخطى في أولها..
... في اثناء العرض يتم اطفاء الكهرباء وتنتظر (بوكسات وشلاليت).. «اميتاب بيتشان» الممثل الهندي الشهير.. ولحظة انغماسك في الانتظار يمر طفل في العاشرة من العمر ويصرخ: «ككس, ككس, ككس» ثم يمر آخر: «بيبسي, بيبسي» ثم يعبران, وانت منغمس في المشاهد ولكنك تشعر أن من جلسوا خلفك هما شاب وشابة في مقتبل العمر وربما استغل هذا الشاب لحظة انطفاء النور, ومسك بيد خطيبته هو اصلاً غير آبه أو مهتم بالفيلم هو جاء لاجل هذه اللحظة..
لحظات ويعود ذلك البائع المتجول ويبدأ بالصراخ: «بزر, بزر, قضامة, قضامة».. ثم يختارك انت من كل الحاضرين ويقف امامك متعمداً حجب الشاشة عنك ويسألك: «بدك قضامة».. فترد عليه: «إمش أقلب وجهك».. ويغادر.
وخلفك مباشرة تشعر أن الخطيبين المبتدئين بالحب تواً قد تطور المشهد بينهما الى الهمس والضحكات.. هما اصلاً لم يحضرا للسينما من اجل (اميتاب بيتشان), هما حضرا للمكان الذي تحجب العيون عنه..
.. بعد دقائق يحضر شخص يسمى «اللكيّس»... وهو رجل يراقب الحاضرين ويتدخل في حال الخروج عن الذوق العام وسمي بذلك نسبة الى (اللوكس) الذي يحمله ويمر بجانبك ويشير (باللوكس) الى الخطيبين، كتنبيه الى ان الحالة قد خرجت عن اطارها ويجب احترام الذوق العام، وفي لحظة غيابه يعود الفتى صاحب الصوت النشاز ويصرخ مرة اخرى (فستق، فستق.. تسالي، تسالي) ثم يأتي اليك مرة اخرى في حركة تنم عن دناءة وانحطاط ويقول لك: «بدك فستق ابو الشباب».. وهنا تفقد اعصابك.. وتشتم كل من في دفتر عائلة ذلك الفتى بما فيهم «المحارم».
كل تلك الاشياء تحدث في الظلام ولو ان السينما مضاءة لما حدث من ذلك شيء اصلا ولا تجرأ ذلك الشاب المبتدئ بالحب على مسك يد خطيبته.. وحين ينتهي الفيلم وتشعل الاضواء تتأمل الوجوه تحاول ان تعرف من هو (اللكيس).. ولا تنجح، تحاول عبثا ان تعرف الخطيبة التي اطلقت قهقهات خجولة لان يد خطيبها تمردت قليلا ولا تعرف.. وتراقب الحضور علك تلتقط (خد) بائع الفستق كي تصفعه ولكنك في هذا الامر تفشل ايضا.
في الظلام تحدث اشياء كثيرة لا يستطيع الضوء فضحها ابدا.
صدقوني اني أعيش هذا المشهد منذ عشرين عاما.. وانتظر تلك اللحظة التي تشعل فينا الاضواء.. ولكنها لم تشتعل بعد.
عبد الهادي راجي المجالــــي
المفضلات