رواية ....الرخام الأسود

عرض للطباعة

عرض 40 مشاركات من هذا الموضوع لكل صفحة
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
  • ........................................ ......... رمز الوفاء
  • أشكر ك على هذه الاطلالة الجميلة ..
  • أني قادم ربما بالأجمل ..ابقي بالقرب
  • تحياتي
  • مختار سعيدي
  • 30-10-2011, 01:42 PM
    الاسطورة


    http://www.postsmile.net/img/29/2976.gif

    يعطيك الف عافيــــــة
    شكرا لكل ما يقــدم
    كل التقدير والود والإحتــــرام
    دمتم بحفظ الله ورعـايتــــه...!!



    اختكم بالله

    اختكم بالله
    http://www.upload.jo1jo.com//uploads...8d673af9ff.gif
  • 01-11-2011, 10:34 PM
    مختار سعيدي
    اقتباس:

    المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الاسطورة مشاهدة المشاركة


    http://www.postsmile.net/img/29/2976.gif

    يعطيك الف عافيــــــة
    شكرا لكل ما يقــدم
    كل التقدير والود والإحتــــرام
    دمتم بحفظ الله ورعـايتــــه...!!



    اختكم بالله

    اختكم بالله
    http://www.upload.jo1jo.com//uploads...8d673af9ff.gif

    ........................................ .................................
    الأسطورة..أيتها الفاضلة

    جزاكم الله خيرا على هذا الحضور المميز
    شكرا على الثناء الحسن
    تحياتي و تقديري
    أخوك مختار سعيدي

  • 13-11-2011, 11:58 PM
    مختار سعيدي
    الفصل الثالث


    المحافظ: أراك اليوم أحسن
    المريضة: الحمد لله
    المحافظ: هل باستطاعتك الآن الاجابة عن بعض أسئلتنا ؟
    المريضة: تفضل
    المحافظ: ما اسمك ولقبك وتاريخ مولدك ؟
    المريضة: لا .. لا أعرف ؟
    وفاضت عيناها بالدمع وخنقتها العبرات ، كانت شفتها ترتعش تحت أسنانها ، واحمر وجهها رغم سواده ، أخذت تمسح دمعها وتقسم له :
    أقسم أني لا أعرف من أنا ، الشيء الوحيد الذي أنا متأكدة منه هو أني لست مجرمة
    المحافظ: سنعرضك على طبيب مختص وان ثبت عكس ذلك ستكون الجريمة أكبر ، وستتعرضين لأقصى العقوبات
    المريضة: ليتني أعرف من أنا وما بعدها أهون
    المحافظ: أتركك الآن ، حاولي ، حاولي أن تستعيدي ذاكرتك ، وها هو الشرطي أمام باب الغرفة ، اذا تذكرت أي تفصيل اتصلي به سآتي على جناح السرعة ، ومن الأفضل لك أن تعترفي وتساعدينا في البحث عن العصابة .. هذا يخفف عنك العقوبة ، ربما البراءة ولم لا ، لعلهم يكونوا غرروا بك وورطوك مثل ما ورطوا الكثير من الفتيات مثلك
    المريضة: سأحاول ، ليتني أستطيع
    المحافظ: من هنا وبعد الفحوصات الضرورية ان لم تعترفي ستحولين الى السجن ولن ينفعك هذا السكوت
    المريضة: ما أصبح يهمني شيء غير معرفة من أنا ، السجن ربما أرحم ، اذا خرجت من المستشفى أين أذهب ؟ وماذا أفعل وماذا أقول ؟..
    المحافظ: لا تظني أن السجن فندق ، انه السجن يا آنسة
    المريضة: أنا الآن في سجن أفظع
    المحافظ: لا تدفعينا لاستعمال أساليب أخرى
    المريضة: افعلوا بي ما تشاؤون ، فقط أعيدوا لي ذاكرتي
    المحافظ: فكري جيدا
    دخل الطبيب : صباح الخير سيدي المحافظ
    المحافظ: تضحك
    الطبيب: ابتسم لك سيدي المحافظ ، الآن انتهت مهمتي ، افعلوا بها ما تشاؤون ، بعد أسبوع سنرغم على اخراجها من هنا ... ربما نحولها للقسم المختص ، فكونوا في اتصال معه حتى تشرفوا بأنفسكم على التحويل ...
    سيدي المحافظ ، انها تداعيات المهنة سوء التفاهم بين الأطباء والشرطة أزلي ، وسيبقى ، فقط لخدمة الانسانية ، فضع نفسك في أي صف تريد ، فخور أنا بوصولي الى هذه النتيجة ، لقد أحيينا نفسا وهي الآن بين أيديكم وبرأت ذمتي ... سيدي على المحبة نلتقي ...
    المحافظ: هل أنت متأكد أنها فقدت الذاكرة ؟
    الطبيب: هذا ليس من اختصاصي ، لقد عالجناها عضويا ، وهي الآن في أحسن حال
    المحافظ: هل كنت تتوقع ذلك ؟
    الطبيب: ليست مهمتنا
    المحافظ: سنحولها بأمر من النيابة الى القسم المختص ، ثم نتخذ الاجراءات المناسبة ... على كل حال أشكرك ، وأستسمحك ، للضرورة أحكام يا دكتور ، حماية المواطنين تدفعنا بعض المرات الى خسارة بعض الأشخاص الطيبين مثلك ، انها هفوات المهنة .. شكرا ...
    الطبيب: العفو
    وحولت المريضة الى القسم المختص ، وبعد الفحوص والاختبارات تبين أن المريضة قد فقدت الذاكرة ، ووضعت في السجن لمتابعة حالتها ، تعرض مرة في كل أسبوع على الطبيب المختص لمعالجتها ...تحت رقم 69 هذا الرقم الذي كيفما وضعته تقرأه " تسع وستون " وهكذا أصبحت خضراء رقما مجردا من كل شيء ، فسميت بسوداء 69 الرقم المفقود ، وجدت نفسها أوراق بيضاء يكتبون فيها ما يريدون ولا تستطيع أن تعترض ، يرسمون عليها ما يريدون ، يشطبون ويتركون ، منهم من يكتب برفق ومنهم من لا يرحم ، وتناسوا أن هذه الكتابات ستتفاعل و تتراس لبناء معادلة انسانية جديدة من وحي ألسنتهم وأقلامهم وأحكامهم ... هنا يغتال حق الزمن وحق التجربة وحق المراحل ، كثيرة هي الأشياء التي تنبت معوقة في هذه الذات الجديدة ...
    وأدخلت 69 الى السجن ورقة بيضاء ...
    كانت القاعة مكتظة بالسجينات كلهن وضعن هنا تحت ذمة التحقيق ، عالم آخر يعيش في الخفاء ، وردت الحارسة الباب وراءها ، كأنه انفجار، تشعر بالرعب والخوف ، تشعر أنك في مقبرة الأحياء وأن الحياة قد توقفت ، وأن الزمن سيتراخى لتبقى في جوفه أكبر مدة ممكنة ، هنا تتخلى عن الكثير من الأشياء مرغما ، وتتحمل الكثير من الأشياء ، هنا تختفي البديهيات ، انها ورشة لحدادة البشر ، هكذا بدأت حياة سوداء 69 ... أفرشة على الأرض ، القمل والصراصير ، والبعوض ، نساء في كل الأزياء يغنين ، يرقصن ، يتشاجرن ، يمارسن أشياء لا يتحملها العقل ، انها مشاتل الادمان ، والانحراف ، السجن مدرسة العصابات وعلب الليل ، انه مملكة الغاب ، لأنه آخر محطة قبل الموت ، فكن ما تريد ، لن تعاقب بأكثر من السجن ، أفظعه الزنزانة ، عادي جدا بالنسبة للمدمنات ، كانت لا تزال في مرحلة النقاهة ، مارسن عليها كل أشكال الاهانة والتسلط ، وماذا عساها أن تفعل ؟...
    كاميليا ، اسمها الحقيقي نوارة ، تجاوزت الثلاثين ، موقوفة في قضية قتل وسرقة ، مدمنة لها عدة سوابق
    مونيا ، اسمها الحقيقي سلامة ، ثلاث وعشرون سنة ، موقوفة في قضية مخذرات وتزوير وثائق ، مدمنة ذات سوابق كذلك
    سوسو ، اسمها الحقيقي سلطانة تسع وعشرون سنة موقوفة في قضية دعارة واجهاض ...
    تلكم هي الفاعلات والماسكات زمام الأمور في القاعة ، ألقي عليهن القبض عن طريق الوشاية ، وكأن الأمر فيه تفكير وتدبير ، انهن المايسطروات ، الباقي أغلبهن أدخلن من أجل بعض المخالفات والجنح التي ارتكبنها بقصد أو غير قصد دون الانتباه للعواقب ، لم تراعي المحاضر ظروفهن ولا معرفة الأسباب الحقيقية التي دفعتهن الى ارتكاب حماقاتهن ، يمزقهن الندم والخوف ، وجدن في تلك الأقراص السحرية مفرا من جحيم الانتظار والأحكام المجهولة ، منهن الميسرات ومنهن من يدفع عنهن خارج السجن ، الأقراص الأولى تقدم مجانا ، أو توضع في القهوة ، انها مهمة مونيا ، بصفتها متطوعة لتقديم فطور الصباح
    كاميليا: انظري اليها انها كالصخرة السوداء ، فوقها غراب
    مونيا: يا حبيبتي ، انها شامة السجن ومن أجلها أحببناه ، أنا لا أتمنى أن أخرج من هنا مادامت هي
    سوسو: تحفة سوداء من حجر
    كانت حينها سوداء 69 قابعة فوق فراشها ، كالحمامة بين الأفاعي ، تحاول السيطرة على أعصابها ، في ذلك اليوم قطعت عهدا على نفسها أن تكون كما أريد لها ، ليس لها جلد آخر .. فتحت الحارسة الباب وقدموا اليهن وجبة الغذاء ، عدس بالزيت والماء بزيادة في الملح ، أخذت طبقها وعادت الى مكانها ، كانت سوسو تنظر اليها بطريقة غريبة ، أثارت نظرتها عصبية مونيا ، فجاءتها ، حملت الطبق وأفرغته فوق رأس السوداء ، فأثارت ضجة وضحك الجميع ، أسرعت الحارسات فتحن الباب ووقف الجميع ينظر اليها ... لم تتحرك .. أغلقن الباب وانصرفن وعادت السجينات الى الأكل ، قامت تنفض العدس عن رأسها ، وضعت رأسها تحت الحنفية ، ولما غمرها الماء احتوتها مونيا وبدأ العراك ، مزقت لها ثيابها تحت التصفيق والنقرات والزغاريد للتمويه ، الا أن في هذه المرة أحست بالاهانة وكأن قوة ما نفخت فيها ، فمسكتها من عنقها وأخذت تشد وتشد ، وتوقف الجميع عن التصفيق ، حتى أغمي عليها وقامت الى كاميليا وسوسو فهربتا وراء الأخريات ، وجدت صحنا أمامها ضربته برجلها ومرت ، جلست في مكانها وقالت :
    كاميليا آتيني بطبقك
    ناولتها طبقها ذليلة وانصرفت
    من هنا وصاعدا لا حركة في هذه القاعة ولا سكون الا باذني ... مفهوم ،
    رمين على مونيا الماء فقامت مذعورة وأخذت مكانها دون أدنى كلمة ، وبعد الغذاء قالت : أريد أن أنام حذاري من الازعاج
    حينها أخذن أماكنهن وساد الصمت لأول مرة في هذه القاعة ...
    في المساء ، جمعتهن وسط القاعة وقالت:
    هل هناك واحدة منكن تريد مبارزتي ؟ أنا لا أعرف من أنا ، أصبحت في قائمة الأموات لا ماضي ولا مستقبل ، مستعدة للبقاء في هذا السجن الى الأبد ، قادرة على فعل أي شيء يطيل بقائي هنا لأن الخروج لا يخدمني ، قادرة أن أقتل وبكل برودة أعصاب ... قالوا عني أني أنتمي الى أخطر عصابة وأنا أخطر عنصر ، سأكون كذلك ، فالتزمن حدودكن ، لا مخذرات ولا جنس ولا ورق ، حذاري أنتن الثلاث ستدفعن الثمن غاليا ، هذا مادمت أنا هنا ... مفهوم
    سكت الجميع ، ثم انصرفن كل واحدة الى مكانها ، وعادت هي الى فراشها تطارد الصراصير ..نفضته ، وأمرت بتنظيف مكانها ...
    انزوت مونيا وسوسو وكاميليا في زاوية القاعة يتحدثن
    سوسو: يجب أن نتعشى عليها قبل أن تتغذى علينا ، هذه الشرسة السوداء ، لم أكن أتوقع أنها حيوانية الى هذه الدرجة ، كأن الجن سكنها
    مونيا: ماذا نفعل ؟ ، مستحيل الحياة بدون أقراص
    كاميليا: سأحدث الحارسة ايناس عنها ، ستحولها الى قاعة أخرى
    سوسو: مستحيل ، هذه القاعة الوحيدة الخاصة للموقوفين على ذمة التحقيق
    مونيا: أنا ألد أعدائها ، أخشى أن تنتقم مني ، يجب أن نجد لها حلا أو مكيدة لاخراجها من هنا
    كاميليا: ابتعدي عنها ، لا أظن انها تحاول ، لو توقعت منها هذا لناولتها الأقراص
    مونيا: انها فاقدة الذاكرة ، ولن يستفيد منها أحد ، ومن يدفع عنها ؟
    سوسو: لو سمع الرئيس بهذه المهزلة لقدمكن جميعا الى حبل المشنقة بثمن بخس ، فتصرفن في الأقراص التي تأتي بها الحارسة ايناس في انتظار ثورة المدمنات
    كاميليا: الا هذه ، سنثير انتباه الادارة ، ويقومون بتحقيق ، ونحن أول من يدفع الثمن مرتين ، يجب المحافظة على الحد الأدنى من الأقراص للمدمنات حتى لا يفتضح أمرنا
    مونيا: الأمر ليس سهلا ، والرئيس لن يغفرها لنا ، يجب البحث عن مخرج آخر ، يظهر تبليغ الحارسة ايناس هو الحل الأمثل
    تلك الليلة جاءت ايناس ، أخرجت مونيا من القاعة ، غابت أكثر من ساعة ثم عادت ، بمجرد ما عادت هرولوا اليها
    -ماذا قالت لك
    مونيا: لا يتعرض لها أحد ولا تمسوها بسوء ، وتعاملوا معها بحذر ، هذه كانت مع جماعة الحادث وتدعي أنها فقدت الذاكرة ... سنتصرف ، اننا نتابع أمرها باهتمام كبير وسنبعث اليها من يأتينا باليقين .. هكذا قال الرئيس
    كاميليا: ألا يمكن أن تكون من الأمن ؟ ، برودة أعصابها وثقتها بنفسها تريبني ..
    سوسو: اذا هو الذل والهوان الآن ، ستنتقم منا شر انتقام
    مونيا: أظن أن وراءها ثروة من العملة الصعبة ، يمكن أن تعمل أي شيء لتستحوذ عليها ، من مصلحتها المكوث في السجن .. أطول مدة .. انها مطاردة من طرف البوليس ومن طرف العصابة ،.. حذاري لا تورطونا ..سيتصرف الرئيس وعن قريب ..
    كاميليا: سأخضعها وأذلها وأستعيد هيبتي مهما كلفني ذلك
    سوسو: وأنا معك ، وماذا بعد السجن ، ونحن فيه، هل هي أشجع منا ، وما فائدة السجن الذي لا يضمن تحطيم جدار الخوف ، ويعلمك المغامرة ، ويلقنك الجرأة ، ويساعدك على العناد ...
    مونيا: أنظري انها تجمع الأقراص ، يااه ، انهن يطاوعنها ، سأقتلها ..
    نظرت اليها باستهزاء وازدراء وأشارت اليها باصبعها ، فتراجعت الى الوراء ، وتقدمت هي
    -هيا ، الي بالأقراص
    مونيا: أرجوك ، أتركي لي واحدة فقط
    -قلت لا ، ودفعتها حتى كادت أن تسقط ، ثم أخذتها من الصدر وهزتها حتى كادت أن ترفعها ...
    جمعت كل الأقراص ، وضعتهم في المرحاض وسكبت الماء
    -والآن الرجوع الى الجد ، أي مخالفة لقانون المملكة تعرض الى عقاب شديد ، جدع الأنف أو قطع الأذنين ، اسألوا عني العصابة ، لا أسامح ولا أجامل ..
    كاميليا: ستخرجكن من عبودية المخذرات الى النخاسة ، لن ترحمكن ...
    وبدأت تستعين بالقويات ضد الضعيفات ، بارزتهن الواحدة تلوى الأخرى ، وكلما دخلت واحدة جديدة تستفزها حتى تتصارع معها وتخضعها ... وأصبحت تترأس القاعة رغم معارضة الحارسات ، تحميها ايناس مرغمة ، وأصبحت تشكل خطرا على الجميع ، يدبرن لها المكائد وتنج منها الواحدة بعد الأخرى بأعجوبة
    استيقظ الجميع كالعادة على ضجيج الأقفال وانصفاق الأبواب لتناول فطور الصباح ، بعدها جاءت الحارسة:
    السوداء !! السوداء !! أنت مدعوة الى الادارة ، هيا أسرعي ...
    خرجت تتبعها ، كثيرة هي الأسئلة التي تبادرت الى ذهنها ، هل هي المكيدة كالعادة ، أم التحقيق ، أم عقوبة ... استأذنت ودخلت وراءها السوداء ، لا تزالا واقفتان أمام المكتب ، رفع رأسه ، نظر اليها ، هز رأسه ، ابتلع ريقه وقال:
    اجلسي ، لقد عينت لك الدولة محام ، حاولي أن تساعديه للوصول الى الحقيقة ، وهذا من مصلحتك ، أما نحن بقاؤك أو خروجك لن ينقص أو يزيد من ادارتنا شيئا ، والسجن ليس فندقا ولا هو مأوى ...
    لم تقل شيئا ، أخذت تنظر اليه ، وراء عيونه الشرسة شيئا من الحنو ، وكأن الرجل في مسرحية ، يقوم بدور لا يتناسب مع مظهره ، تنتظر منه أن يحتضنها ، ويعترف بطيبته ...
    كان المكتب فسيحا واسعا ، مكيفا ، حوله أرائك فخمة ومريحة ، نوافذه واسعة للشمس والهواء ، خلفه مكتبة فيها الكتب مبعثرة ، مجلات ، بعض الملفات ، أرضية المكتب مفروشة ، صورة رئيس الجمهورية زادت هيبة المكان ، انه ينظر اليها ، ليته كان يسمع ، هكذا قالت في نفسها ، فاذا بباب جانبي يفتح
    - المحامي هنا ، سيدي
    - أشار اليها فقادتها الحارسة ، دخلت ، كانت الغرفة ضيقة جدا كأنها زنزانة ، في وسطها طاولة من حديد وثلاثة مقاعد ، جلست بدون اذن ، لم تبال بابتسامة المحامي ، تنظر حولها ، أغلقت الحارسة الباب وجلست وراء الشباك ، جلس المحامي أمامها ووضع محفظته على الأرض على رجل الطاولة
    المحامي: أنت هنا منذ متى ؟
    السوداء: لم تقرأ ملفي ؟
    المحامي: لا شك أن لك ما تقولين أفضل من الملف
    السوداء: أنا لا أذكر شيئا ، ظلام ما قبل السجن ، والسجن ظلام
    المحامي: هذا تشاؤم مفرط ، وفي هذا السن !
    السوداء: يا سيدي ، أنا لا أعلم حتى من أنا ، حسب أقوال الشرطة ، التي ولدتني من العدم ، أنا مجرمة ، أعمل لصالح جماعة أشرار ، يعني عصابة ، أتاجر في المخذرات ، أنا يا سيدي حسب أقوال الشرطة عنصر فعال وخطير جدا ، لما أدخلت الى السجن كنت أذل المخلوقات ، حاولت أن أكون كما أريد لي ، فكان لا بد لي من استعادة مكانتي ، وحقيقة استطعت أن أصنع من نفسي الصورة التي رسمتها لي مصالح الشرطة القضائية ، فلجأت الى العنف واسترجعت شخصيتي ، وأنا اليوم سيدة القاعة ، لا أخفي عليك ، لقد تجردت من كل معاني الضمير ، أفعل بالسجينات ما يريحني ، لا أفرق بين الخير والشر ، وأدركت أنها الوسيلة الوحيدة لفرض النفس في هذه الغابات .. حتى لو خرجت من السجن ماذا أفعل ؟ أين أذهب ؟ ان السجن بالنسبة لي هو المستقر الوحيد ، أشعر فيه بالأمن لأنه مملكتي ، لن أجد أحسن في الشارع ، ولا شك حسب العينات التي تأتي الينا أن خارج السجن ، الناس يعيشون الوحشية بمعناها الواسع وبمفهومها الحقيقي ، على كل حال أنا لا أحب أن أخرج الآن لأنني لم أتمم التربية التي تساعدني على الحياة خارج السجن ... يا سيدي أنا لا أملك الا هذا الجسد المجرد من الماضي لا مستقبل له ، أنا لا أصلح لشيء ، الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تساعدني عليه هو أن تتركني أعيش الحياة التي ألفتها ، ومهما كنت ، أتمنى أن تأتي أنت كذلك لتعيش معنا هنا في السجن حيث تتعلم كيف تتعامل مع هذه الوحوش الطليقة والقائمة على شؤون الناس ، ستتعرف على من يدفع ثمن الأخطاء التي يرتكبها الأقوياء .. السجن يا سيدي بني للضعفاء والمستضعفين كي يتعلموا كيف يتعاملون في الضجيج بعيدا عن السادة ، لأن حق الحياة والعيش الكريم يبقى دائما للأقوى في كل شيء ، أقول في كل شيء ..
    القوة تصنع المعجزات يا سيدي ، ان كنت تنظر الى الحياة من زاوية أخرى فأنت مخطىء ، وعليك بمراجعة بياناتك ، هكذا ربانا السجن ، ولا أظن أن الحياة خارجه أرحم .. فقط السجن يعلمك كيف تتسلط على أمثالك وتبتزهم وتزدريهم وتذلهم ليعيش الآخر البحبوحة في أمان ،ان جرائمنا يا سيدي هي الحد الفاصل بين الخط الأسود والخط الأحمر ، لأنها فيما بيننا ، وعندما لا يجد القانون ظهرا يحمله يحملوننا نصوصهم ورسائلهم ... نحن المنبوذون ..
    أنظر الى هذا التناقض والنفاق ، صنعوا مني مجرمة ، وهاهم يدافعون عني ، انهم يرحمون ذبيحتهم ، غريب أمر هؤلاء القوم .. ، لا تندهش من كلامي ، انها مدرسة السجن ، تعلمك بالقوة مفعول كل قوة ، اذا أخرجتني لن أرحمك ، لأنك عنصر خطير في معادلتهم ، لأنك توهمني بالعدل وتغرر بي لتبرير أخطائهم .. لن أسامحك
    كان المحامي يتابع حديثها باهتمام بالغ ، ليته حمل معه مسجل ، فاذا هي كذلك اليوم وهي فاقدة الذاكرة ، فكيف تكون اذا استعادتها ، سكتت هي وبقي المحامي يتابع حديثها كأنها لم تتوقف عن الكلام ، لم يستطع أن يوقف تدفق هذه الفكرة ولا أن يضع حدا لامتدادها .. صراخ .. أنين .. صياح .. استغاثات ، وفرضت امتدادية الطرح نفسها خارج السجن ، كشفت البؤس في كل مكان ، وأن هذه الوجوه التي تبتسم وتقهقه في الخارج هي أقنعة مجانين ... كادت تنفجر حنجرته من الكبث ، حمل محفظته ، أشار الى الحارسة ، فتحت الباب وانصرف دون أي كلمة ، دخل الى مكتبه ، أغلق الباب باحكام وخلد الى التفكير ، يجتر ما سمع ، وفرضت عليه قراءة جديدة للمجتمع ، ومناقشة هذه القضية بطريقة جدلية مثيرة ، يرافع فيها بطريقة أكاديمية ، انها محاكمة العصر .. الا أن هذا يحتاج الى شركاء من كل مجالات الحياة ، والقضاء عندنا قضاء وقدر .. سيدافع عن س عن هذا المجهول في معادلة غير متساوية الأطراف مهما كلفه ذلك .. وهكذا بدأت مغامرة أخرى ... كتب على الملف س بعد أن رمى كل أوراقه في سلة المهملات .. يجب أن تصنع الفرضيات الحدث الحقيقي ..
    عادت الى مكانها ، لم تتفوه بكلمة ، زرعت في نفس الحارسة التي سمعت حديثها نوعا من الحذر ، لم تجرأ أي واحدة على مسائلتها ، لأول مرة تخرج الى الادارة ، وتعود كأنها انسان جديد ، لقد تزودت نفسيتها بشيء ما ، تبحث عنه تلمسه ولا تراه .. مدير السجن ، المحامي ، المكتب ، صورة الرئيس ، عالم آخر ، دنيا أخرى ، كل هذا خلف هذه الجدران العالية وهذه الأبواب الموصدة ، انهم وراء الحاجز تذهب اليهم الأشياء لا يأتون اليها ... تتساءل لماذا لا تكون هي مديرة السجن أو رئيسة الجمهورية ؟ ، ولكن هي كذلك لها مملكتها ، هذه القاعة وشعبها المنحرف الذي تجلت فيه كل تجارب مفهوم الحياة البشرية التي اكتسبها من الحيوان ، ابتداءا من الحرية في القفص ، والحرية من أجل الأكل والأكل فقط ... شيء ما يختلج في صدرها ، هذا المحامي الذي انصرف ولم يقل شيئا ، وهذا المدير الذي كان يخفي في نظرها طيبته ... كلهم يتكلمون خلف الأقنعة لدرجة اختلاط الواقع بالوهم ، الحقيقة بالخيال .. هكذا يضيع الصواب في الذات وخارجها .
    خلدت الى قسط من راحة الأقوياء، ويوم ضعفي بينكم لكم أن لا تتنازلوا أيها الضعفاء ، وفي مساء ذلك اليوم جاءت رئيسة الحرس ، كن يلقبنها بالتمساح ، اسمها الحقيقي جميلة ، لكنها بشعة حتى ضاقت منها البشاعة ، متسلطة وعنيدة ، ليس وراءها الا الشر ، دخلت الى القاعة وليس من عادتها ، اختلت بالسوداء ، لأول مرة تظهر على وجهها الابتسامة ، وعم الاستغراب الجميع ، تواصلت ابتسامتها حتى سقطت في العبثية الى حد السخرية ، تحتويها بعين المكر والخبث ، كانت السوداء تستمع اليها بصمت غطى كل المشاعر ، تنظر اليها بعيون تزرع برودة الموت حتى أدركها الصقيع فسكتت ، رفعت يدها ، ردتها الى الخلف وبكل قوة صفعتها ، لم يتعد صداها الوجه ، كانت تنتظرها ، فشدت على نواجدها بكل قوة ، ثم أخرى ، لم تحرك ساكنا .. فانصرفت ، ولما كانت أمام الباب قالت لها سوداء وبكل هدوء ، سأردها عليك في الوقت المناسب
    اختفت قليلا ، ثم عادت ، قيدتها تجرها الى الزنزانة..
    رئيسة الحرس : سنرى هذه الأعصاب الباردة اذا كانت قادرة على مقاومة البرد والجوع ولسعات الهراوة والمحزمة
    رسمت سوداء بسمة الزعماء على شفتيها الخصبة ، فجنت الحارسة ، تتقاذف الشرارات من عينيها وبدى عليها انهزام نفسي فظيع ..
    - سأروضك أيتها المتوحشة ، أذلك ، أفركك ، وأذيقك الهوان ، وأسقيك شراب الخزي حتى تركعي ، جميل ، سوداء الملح تستعبد ؟ الا هذا ...
    فقالت السوداء: مأجورة على ذلك ؟ افعلي بي ما تريدين ، لن أبلغ عنك أحدا ، فقط سجليها ليوم الحساب ، سأرد لك المعروف مضاعفا ، والسجن أنا فيه وسأبقى ، بعد الحكم نلتقي وسيكون لي معك كلام آخر .. هيا بنا ، الى أين ؟ الى الزنزانة ؟ هيا ... فاذا بايناس تأتي مسرعة ، همست في أذن الرئيسة ، وبدى على وجهها الاستغراب ، سكتت قليلا ، نظرت اليها ، ثم تركتها وذهبت هي والحارسة يتآكل على وجهها الغضب والخيبة والخذلان
    عادت السوداء الى مكانها تقاوم رغبة البكاء ، وألزمت كل واحدة منهن مكانها ، زادها الموقف هذا هيبة ، ومكنها أكثر ...
    لم تلبث كذلك الا قليلا ، فاذا بالحارسة تعود لتأخذها معها ، في هذه المرة ذهبت مباشرة الى مصحة السجن ، حيث كانت تنتظرها امرأة ، في العقد الخامس ، ليست كنساء السجن ، قصيرة ، عريضة ، تغطي شعرها الأصفر بفولار أزرق فاتح ، ترتدي بذلة كلاسيكية زرقاء ، تحتها قميص أبيض مفتوح ، تظهر في نحرها سلسلة من ذهب ، في أذنيها قرطين صغيرين ، وفي اصبعها خاتم خطوبة لا شك ، جميل ، متزينة بطريقة محتشمة تتأبط سفطا أبيض وتحمل نظارات تظهر خلفها زرقة عيونها كأنها امتداد البحر ، تنظر بعمق ، وتحتوي بابتسامتها القلوب ، بعيدة في حركاتها العبثية ، وكأنها صنعت على المقاس ، وضعت يدها على كتف السوداء ، نظرت اليها جيدا ، تنهدت ، تكاد تضمها اليها برفق ، غمرتها ، فيض من حنان وعطف ورحمة ، دون تكلف ولا اصطناع ... أجلستها وجلست بجانبها وقالت :
    أقول لك سر ، ربما لم يقله لك أحد ؟!
    رفعت السوداء بصرها اليها ، تكاد تنهار بالبكاء ، تنتظر منها ذلك
    -كم أنت جميلة أيتها النحلة الكحلاء ، ما شاء الله عليك ، هل رأيت وجهك في المرآة .. نعم .. نعم أنت فاتنة يا لؤلؤة .. كأنه زواج مختلط ، الأب أبيض والأم سوداء أو العكس ، أولاد هذا النوع من الزواج ، وأكثرهم مثلك ، وخاصة اذا كان عن حب .. نعم .. نعم في الحقيقة أبناء الحب كلهم مثلك ، لأن الحب لا يؤمن بالفوارق والطبقات ... لا علينا ، أنا أنشط في جمعية خيرية اجتماعية تساعد النساء اللواتي عندهن مشاكل ، نحاول معهن اخراجهن من همومهن ، وقد أنقذنا الكثيرات ، منهن من كانت على حافة الانتحار ، سمعنا بك فطلبنا رخصة لزيارتك ، وأعرض عليك صداقتي ، لا شك أنك بحاجة الى التعبير عن أشياء كثيرة تدور بخاطرك ولم تجدي الأذن الصاغية أو الصدر الحاني الذي يسمعك من العمق ، نحن الجمعية الانسانية الوحيدة التي لا تتجسس عليها الادارة ، فكوني مطمئنة أن حديثك مهما كان معلق في ذمتنا ، وهو مجرد الطريق الذي يوصلنا الى منبع الأزمات النفسية والاجتماعية ، ولهذا أتمنى أن تجدي راحتك معي لأنني سأزورك من حين الى حين ، وحتى بطلبك نأتي ، ندردش ، نقول أي شيء ، أعطيك فائدة ، ان الانسان مهما كان لا يتكلم من فراغ ، مستحيل ... ماذا قلت ؟ هل تقبلين بصداقتي ؟..
    السوداء: لا أرى مانع
    المرأة: جميل ، اذن نحن الآن صديقتان ، ما اسمك ؟
    السوداء: السوداء .. الصخرة السوداء
    المرأة: هذا اسم السجن ، أريد اسمك الحقيقي
    السوداء: لا أعرف ؟ .. نعم لا أعرف من أنا ؟ .. قالت الشرطة القضائية ..
    المرأة: لا .. لا .. لا .. لا أريد هذا ، أرجوك ، أعرف كلام الشرطة ، هذا من حقهم لأنهم حماة البلاد والعباد ، ولو صدقوا الجميع لفسد الجميع ، أما أنا وأنت نريدها صداقة بعيدة كل البعد عن المحاضر البوليسية وملفات العدالة ، نريدها انسان مجرد من كل القيود ، لانسان يعيش للانسانية ، نريدها علاقة مبنية على أسس وجدانية بعيدة عن أي هدف الا الهدف الانساني المجرد من كل شيء ... أريدك أنت يا سوداء كما ترين أنت نفسك وكما تعرفينها ، ولهذا أتركك هذه المرة وسأعود اليك لما تجمعين في جعبتك شيئا من القول عن التفكير والتدبير ... أتركك بخير
    خرجت المرأة ، وعادت السوداء الى القاعة ، ولا تزال تدفع رغبة البكاء ، أحست بوحشة ما بعدها وحشة ، واكتسحتها غربة الذات .. تبحث في جسدها عن نفسها ، تتوسل اليه ، تترجاه ، توعده ثم تتوعده ... يستحيل أن أكون من العدم ، من الضياع ، لماذا لم يسأل عني أحد ؟ هل أنا مقطوعة من شجرة ؟ من أين أنا والى أين ؟ لماذا نسيت نفسي ؟ وما الذي شغلني حتى ضاعت مني ؟ لماذا تنكرت ؟ أين تلك المرأة التي جاءت الى المستشفى تدعي أنها أمي ؟ .. أين أبي ؟ أين اخوتي وأخواتي ؟ هل تبرأ الجميع مني لأني مجرمة ؟ آه ، نعم .. أدركت الآن ..
    كانت دوامة البحث عن الذات تمتطي صهوة كل سؤال فظيع ، يضيع صداه حيث لا تدري ... هي التي لا تعرف الا مدير السجن ، ذلك الرجل الأسود مثلها ، ذلك الأنيق ، في العقد الرابع يبدو من العمر ، ذلك الذي يخفي شيئا من الحنان وراء نظراته ، وبعضا من الحنو خلف كلماته ، ولكن هي مجرمة وهو رجل قانون ، غريب كيف تتناقض الأفعال حيث تتقارب المشاعر ، حتى الآن لا تعرف من أين يأتي ذلك الدافع الذي يسوق مشاعرها الى حضن المدير ، هل هو الحب أم هي قراءة لبوادر رحمة على صفحات البشرة السوداء التي تجمعهما ... أشياء مبهمة تتزاحم في ظلام نفسها ، تدفع عشوائيا جدران الصمت ، تبحث عن منفذ للخروج ، تنصفق ، تتكسر ، تتشكل وتعود ، انها تعيش مخاضا داخليا ، مكبوثا ، يصارع أشياء تراكمت كلها ، تريد الخروج مرة واحدة ، كأنها متفجرات على وشك الشرارة ، تتفاعل حتى تكاد... ثم تجمد الى درجة الصقيع ، ويغمر الذات سكون الموت ، ولا يعود يهمها شيئا ، تكتفي بأنها مجرد جسد تنبض مداركه ، وماذا بعد ؟ .. ربما لو عرفت نفسي أمقتها ..
    تعود الى تلك المرأة الطيبة ، ألا يمكن أن تكون ملاك رحمة جاء في صفة بشر ، لأول مرة تحس بذلك الشعور الانساني الذي ينبع من فطرة الخلق والخلق ، لا ينظر اليها من زاوية الذنب ، لا يعرف التوعد ، يعترف بالخطأ ، بل يتجاوزه لأنه من سمة البشر ، لا يفرق بين الأسود والأبيض وبين ...
    لماذا هذه السجون ؟ وجرائم الخفاء أفظع ، حيث يدفع البعض عن البعض ، لماذا هذه الأحكام على الظاهر؟.. وما في الباطن أسوأ ، لماذا هي الأشياء الا كما يراها غيرك؟ ... لماذا لا يمكن لي أن أرفض هذا التوظيف لاستكمال مشهدهم ؟... غريبة هي الأشياء تلك و أنا أغرب ! .. كاد رأسها أن ينفجر ... لا تزال القاعة لم تتحرك ، واكتسحت الغرابة وجوه الجميع ، انتبهت ، تنظر اليهم وهي واقفة وسط القاعة ، أسدلت يديها ، بصمت ، أشارت اليهن ، ماذا ؟ ماذا حصل ؟ ... نعم كانت فوق خشبة مسرح الحياة ، لم يكن ذلك مونولوج ، بل كان خطاب راو على الخشبة ... تقدمت احداهن اليها بكل رفق وقالت :
    -ما هذا الكلام يا سوداء ؟! قطعت أكبادنا ونزفت القلوب دم الأسى ، انك تعانين كل هذه المعاناة .. ما أتعسك ! وما أتعسنا معك !، كل واحدة منا كانت تشعر وكأنها أنت ، عبرت بما عجزت عنه ألسنتنا ، لقد عايشنا مسرحية من عمق الذات البشرية التي لا تدركها هذه القلوب التي صنعتنا وشوهتنا ودفعتنا ثمن أخطائها وفشل تجاربها ، لتدرك غايتها .. انه الدرس في الانسانية الذي لا ننساه أبدا ... يا حبيبتي نحن معك ...

    الفصل الرابع

  • 24-11-2011, 12:23 AM
    مختار سعيدي
    الفصل الرابع


    كان في مكتبه ، يراجع بعض الملفات ليقدمها في جلسة الغد ، فاذا بالهاتف يرن
    - ألو .. ألو .. الأستاذ كريم
    يحاول أن يتعرف على الصوت .. غير ممكن
    كريم: نعم .. من على الخط ؟
    -أنا الدكتور مجبر ، رئيس مجلس أطباء المستشفى
    كريم: مرحبا دكتور
    الدكتور مجبر: سأزورك في مكتبك بعد الدوام ، هل يمكن ؟
    كريم: ابتداءا من الساعة السادسة مساءا ، مرحبا بك
    الدكتور مجبر: شكرا أستاذ .. شكرا ..
    انقطعت المكالمة وعاد كريم يقلب ملفات موكليه ..لا يستطيع أن يركز .. هل الأمر يتعلق بخضراء ؟ .. ! لا ، لا أظن...بعد كل هذه المدة ؟.. اللهم اجعله خيرا ... دفع كرسيه الى الوراء ، مد رجله وطوى الأخرى ، ينظر الى حذائه ، كان عازما على شراء حذاء آخر ، لن يجد فرصة أخرى كهذه ، وقبل أن يقوم قرع أحد الباب ، استوى وأذن له بالدخول ، دخل الرجل ينظر الى كريم بعيون همعة ، وشفة ترتعش ، مرتبك تخنقه العبرات ...
    الرجل: شيء فظيع يا أستاذ ، فظيع ، قتلوا زوجتي وابني ، قتلوهما المجرمون ، قتلوهما ببرودة أعصاب وبرودة دم
    كريم: من قتلهما ؟ ... تعرف المجرم ؟
    الرجل: في المستشفى ، يقتلون فيه بعبثية ... في مصلحة الولادة..
    كريم: اجلس ، واروي لي بالتفصيل ماذا حدث ، وأقسم لك أنني سأدافع حتى انصافك ومعاقبة المجرم
    الرجل: أدخلت زوجتي في حالة مخاض الى مصلحة الأمومة ، وأنا رجل فقير ، لا أقدر على دفع مصاريف العيادات الخاصة ، والجميع يعلم ما وصلت اليه هذه المصلحة من اهمال وتسيب ، متسببة في الكثير من الوفايات التي بقيت دون عقاب ، وكانت زوجتي وابني ضحيتا تأخر التوليد ، وقد أثبت الطبيب الشرعي أن ابني مات نتيجة خنق وامرأتي من أثر النزيف الحاد ... ها هو ذا الملف الطبي ، حوله الي أحد الممرضين ، ويمكن أن يشهد اذا تأكد من الحماية
    كريم: حاضر ، سأقوم بالمهمة بعد أن أطلع على الملف وأتحقق من الجريمة.
    أدخل الرجل يده في جيبه ، وأخرج مبلغا من المال ، مده الى كريم فرفضه
    كريم: لا ، لا أريد شيئا حتى أتبين وأطلع على محضر الشرطة وأقوال الشهود ، والمتهم ..
    أعاده الرجل الى جيبه وقال في أسى :
    مابقي للمظلوم سوى الله والمحامي النزيه مثلك يا سيدي ، هكذا قالوا عنك ، وأخشى أن يأتي يوم يفرض على المواطن القصاص لنفسه ونعيش حكم الغاب
    كريم: لا ، لا .. لا تخشى ذلك ، هناك قضاء وقوانين وعدالة ... اطمئن ، لا يضيع حق وراءه مطالب ...
    خرج الزبون وترك الباب وراءه مفتوحا ، فتح كريم الملف يقلب وثائقه ، عبارة عن شهادات طبية وبطاقة متابعة الحمل ، وأشعة وتقارير طبية للحامل ولظروف الوفاة ، كانت اطلالة روتينية لقضية مكتسبة مسبقا ، لن تقل عقوبة الجاني فيها عن 20 سنة ، هذا بعيدا عن الرشوة أوالمحاباة ، فقط يجب التحري أكثر للتيقن .. وقام لغلق الباب فاذا بمساعده يدخل كالثعلب الماكر ...
    كان رجلا قصير القامة ، أنفه كالببغاء بمناخر كفوهتي بندقية صيد ، بعينين ضاحكتين ، طويل الوجه ، أمرد الخدين ، أجعد الشعر أسوده ، رقيق الشفتين تظهر أسنانه قبل أن يبتسم ، يتكلم بسرعة حتى لا يكاد يفهمه الا القليل ، يبتلع الحروف وأواخر الكلمات بلعا ، يبالغ في الادغام ولا يحسن المد ، يبدأ بالساكن ويمضغ المتحرك
    المساعد: لا زلت هنا ؟
    كريم: نعم ، أنا خارج الآن
    المساعد: ما هذا ؟ ، ملف جديد ؟
    كريم: نعم ، هذا رجل يدعي أن زوجته وابنه توفيا في مصلحة الأمومة نتيجة اهمال
    المساعد: نعم ، سمعت بهذه القضية ، حولت الى العدالة ، المتهم الرئيسي فيها قابلة معروفة ، طالتها الألسنة من كل جهة ، في الحقيقة هي قابلة ماهرة ، تجاوزت سن التقاعد ولا يزالون يحتفظون بها لمهارتها واتقانها واخلاصها في العمل ، قالوا أنقذت الكثيرات من الموت ، يظهر أن ادارة القطاع الصحي ستتولى الدفاع عنها ، لقد أوقفت بالأمس وأدخلت السجن ، ستتصل بك الادارة للدفاع عنها لا شك.
    كريم: عندي ميعاد مع الدكتور مجبر في المساء
    المساعد: لا شك لأجل ذلك ، ولا مفر لك من الدفاع عنها
    كريم: أنا الآن ضدهم ، ولا أستطيع أن أتراجع ،هذا التزام ،سيأتي طلبهم متأخرا
    المساعد: لعلك يا أستاذ تمزح
    كريم: أمزح ! كيف ذلك ؟ اني أكثر جدية من أي وقت ، وليست من عادتي أن أتخلى عن موكلي
    المساعد: أنسيت أننا بصدد التوقيع على عقد مع ادارة القطاع الصحي لتمثيلهم أمام العدالة ؟
    كريم: لكن لم أوقع بعد ، وما كان هذا في الحسبان .. الحقيقة أني نسيت هذا الأمر ، انني مرهق في هذه الأيام حد الارتباك ، لقد أجلت كل الملفات التي تحتاج الى دقة وتركيز كبير، تفاديا للهفوات
    المساعد: حقيقة ظهر عليك بعض الفتور والتعب في هذه الشهور الأخيرة
    كريم: هيا بنا ، الساعة الآن منتصف النهار والنصف ..تتغذى معي ؟
    المساعد: لا ، أذهب الى البيت ، عندي ضيوف .
    حمل حقيبته وانصرف .
    أحس برغبة في الاستحمام ، وليس من عادته ، فدخل غرفة الحمام ، نزع ثيابه ودخل في المغطس ، شعر بنوع من الارتخاء ، يتحسس النوابض في جسده المرهق ، تمنى لو تيسر له الأمر لينام هنا ، ينظر الى شامة سوداء في صدره ... كأنها خضراء في القبيلة ، ابتسم وقال :
    أتمنى أن تكوني بخير ، سأعمل المستحيل ... سأعمل المستحيل ، هي قضية وقت فقط وظروف ، يمكن أن يغير الزمن هذه القلوب القاسية وترحمك وترحمني ، فقط تأكدي لن أبدلك ولن أتغيرأبدا ، والأمل نحن نصنعه ، فقط كوني بخير .. كوني بخير ..
    لما خرج من الحمام وجد أخته قد أعدت له المائدة ، الا أن الشهية قتلتها رغبة كاسحة للراحة ، أشار اليها بيده أن ارفعي مائدتك ، دخل غرفته ، امتد ، وأغمض عينيه ، يتنفس الصعداء ، أفكاره كالنحل المضطرب ، تلسعه الواحدة تلوى الأخرى ، استوى قاعدا ، شبك أصابعه ينظر من نافذته الى السماء ، كأنه موسم الهجرة ، الطيور تمر أسرابا أسرابا نحو الجنوب ، ونحن لا زلنا في أول سبتمبر ، ظهر له أن كل المخلوقات تحب الهجرة ، تدفعها اليها عوامل مختلفة ، ايجابية أو سلبية ، وتبقى الهجرة رمز الحرية ومغامرة من أجل الأفضل .. قليلة هي الأشياء الجميلة التي تأتي الينا ، ظاهرة البحث عنها في الانسان قضاء وقدر لا مفر منه ، بل حتى في المخلوقات الأخرى، هل خضراء ذهبت من أجل ذلك ؟ ، أم هروبا من الجحيم الذي كانت تعيشه ؟ ...
    كانت السماء صافية ، تمر بعض البواسق الصغيرة من حين لآخر ، على أشكال مختلفة ، يحاول أن يقرأها ، أعجزته لمسات هذه اليد المجهولة التي ترسمها ، تسوقها الرياح العليلة ، كالراعي يسوق مواشيه التي تخلفت برفق الى المورد ... لا شك أن السماء ستمطر في هذا المساء ، و لا شك ، و لا شك..و لا شك...
    ولما استيقظ ، كانت الساعة الثالثة بعد الزوال ، غسل وجهه ، لبس بذلته ، تعطر وحمل محفظته وخرج في عجالة ، لقد تأخر كثيرا ، دخل المكتب وجد بعض موكليه ينتظرونه ، اعتذر وبدأ يستقبلهم الواحد تلو الآخر ، لما جاء الدكتور مجبر وجده مع آخر زبون ، انتظر قليلا ، لما انصرف دخل ، قام له كريم واستقبله بحفاوة كبيرة أنزله بها منزلته ، الدكتور مجبر ، شخصية في الولاية ، منارة يعرفه العام والخاص ...
    هو رجل طويل القامة ، في العقد السادس من العمر ، كبير الرأس غليظ الشفتين ، أسمر ، تحت كثافة حاجبيه عيونا أتعبتها دقة التأمل ، النظر و التروي ، تظهر فيها حدة ذكائه وجديته ، طويل الأطراف ، كأنه يمارس المصارعة الحرة ، لا يزال يحافظ على بنيته ، يعتني كثيرا بمظهره ، حتى لا تكاد تعطيه أكثر من خمسين سنة ، يتحرك بلباقة ورشاقة الكهل ، يتكلم بطريقة الواثق من نفسه وبروح مسؤولية عالية ، الكثير من الناس يقولون أن خروج الدكتور مجبر من المستشفى ضربة قاضية لهذا القطاع ، انه رجل له وزنه ...
    كريم: مرحبا دكتور
    الدكتور مجبر: أستاذ كريم ، بدون اطالة أومقدمات ، عندنا في مصلحة الأمومة مشكلة كبيرة جدا ، تتطلب منا جميعا تناولها بحذر ، مجرد سقوط سعفة من الطرح ندفع بضحية الى المقصلة ، أعترف لك بأنه خطأ ، ولكنه مهني ، وهذا النوع من الخطأ يقع في جميع المستشفيات ، يعالج بطرق مختلفة حسب الظروف والفاعلين فيه ، الضحية والجاني ، حتى الزمان والمكان لهما نصيب في دفع الحدث ليكون قضاءا وقدرا أوجريمة ، يستحيل يا أستاذ أن قابلة في العقد السادس من العمر ، أفنت عمرها في خدمة صحة المواطنين ، تتعمد خطأ كهذا ، ولهذا أريدك أن تدرس ملف هذه البائسة بطريقة استثنائية ، نساعدك بقناعتنا كمختصين وبشهادتنا التي سنعتمد فيها على المضاعفات والأسباب الحقيقية التي أدت الى الوفاة ، المرأة ليست مجرمة في نظر الطب يا أستاذ ، كل الوظائف والمهن لها هامش أو نسبة مسموح بها من الخطأ
    كريم: دكتور مجبر ، مع كل احتراماتي وتقديري لك ولكن أعذرني ، لا أستطيع أن أدافع عن مجرمة زهقت روحين ، مهما كانت الأسباب و الحجج ، هذه المرأة في نظر المجتمع كله مجرمة ، تستحق أشد العقاب ، زيادة عن ذلك ، لقد سبقكم الخصم و وكلني ، سأرافع لصالحه .
    الدكتور مجبر: أعرف أن موقفك صعب جدا ، وأعرف أن الأمر أصعب مما يتصوره أي انسان ، ولكن تبقى مسؤوليتنا كبيرة لما نبني أحكامنا على العاطفة أو على ظاهر الأشياء ، ولولا يقيني ببراءتها ما جئتك بنفسي ، وأنت اليوم على موعد بامضاء العقد للدفاع عن القطاع الصحي ، معنى هذا أنت ملزم بذلك طبقا للقانون ، وملزم كذلك كضميرحي لانقاذ روح بريئة من الموت ، أليس القانون جاء لممارسة الحياة مثله مثل الطب ؟ ، أنا وأنت هنا لاحياء الناس ونتحدى الموت الا في قضايا الاجرام ببينة .. أستاذ كريم ، صدقني المرأة بريئة وبحاجة الى رجل مثلك يؤمن بالعدل ويحترم القانون لينجيها من حبل المشنقة ، تخليك عنها جريمة يا أستاذ في حق الانسانية و مهنة الطب ، وسكوت غير مبرر عن حق في الحياة يزهق أمام الجميع ...
    كريم: يا سيدي ، أنا لا أتاجر بالأرواح ، و لا بالذمم ، وظيفتي الدفاع لاعادة الحقوق الى أصحابها ، أما الأحكام فهي من اختصاص القاضي ، المهم أن يعوض موكلي عن الضرر ، فاذا ردع المشرع فأين مسؤوليتي في هذا ؟ ، وليس من السهل أن ندافع عن امرأة حكم عليها الجميع قبل محاكمتها ، و أدانها القريب و البعيد ، رغم أن الشارع لا يقيد الشرع الا في مفهوم الجبناء.
    الدكتور: لا علينا ، نحن نقبل بتعويض مادي للضرر ، ويمكنكم المرافعة على هذا الأساس ، المهم اسقاط عقوبة السجن ، انها في آخر عمرها و لا نريدها أن تنهي مشورها فيه
    كريم: وهذا نصف الاعتراف بالجريمة.
    الدكتور: سأكون شاهدا بأدلة طبية ، بأن الخطأ مهني محتمل في كل مستشفيات العالم ، وسأقنع الجميع .. ما رأيك ؟
    أدخلت الضحية يوم السبت صباحا ، كان من المفروض أن تلد قبل الساعة الثانية مساءا ، وهي ساعة انتهاء الدوام الأول ، وفي آخر لحظة طرأ عاجل في القاعة الأخرى ، استدعى التدخل السريع للجراح والقابلة ، فاستلزم ذلك وقتا لانقاذها ، في هذه اللحظة بالذات اشتد المخاض على الضحية ، فأسرع الجميع على أنها ولادة عادية ، ولسوء الحظ كان الولد قد حول رأسه الى الأعلى واستوى قاعدا ، مع أنها ولادتها الأولى وجب اللجوء الى عملية قيصرية ، وهكذا كان الجميع في سباق مع الزمن يتحدون المستحيل ، وعملوا ما في وسعهم ، ولكن ويا للأسف حصلت الكارثة ..أعلمك بأننا لا نزال نعمل بامكانيات محدودة جدا ، وهذه القابلة أنقذت العشرات من الأرواح في ظروف أخطر ، ألا يشفع لها هذا ؟.. المهم سأكون حاضرا ، وأتطرق الى الموضوع بتفصيل أكثر .. أستاذ هكذا يكون القضاء والقدر في بعض الأحيان أسرع ..
    كريم: أترك لي فرصة لأفكر
    الدكتور: الوقت يداهمنا لا تطيل في الأمر
    كريم: انني الآن أمام أكثر من اشكاليتين ، التزامي مع الرجل ، العقد معكم ، والمرافعة في قضية ملغمة ، ولست مطمئنا لبراءتها
    الدكتور: أتظن أننا نتلاعب بالأرواح ؟ أم ضميركم أعظم
    كريم: أبدا يا دكتور ، أنت مطمئن لهذا الطرح لأنه اختصاصك ، أما أنا أتعامل مع النص القانوني الذي لا مكان للعاطفة فيه ، كيف يمكنني أن أجمع عدة عوامل متناقضة للخروج بتركبة منصفة والضحية انسان ؟
    الدكتور: وهذا الانسان هو الذي يبقى فوق كل الاعتبارات ، لتوجيه كل العوامل نحو صناعة العدل ، والعدل وحده ... وبعدها كيفما يكون الحكم نكون نحن قد برأنا ذمتنا .. والخطأ سمة البشر ، وحتى القاضي يخطئ في حدود هامش حدده القانون ، والواقع لا يكذب ذلك ، والجريمة هي عندما نتعمد الفعل ، و كثيرة هي النوايا التي لا يعلمها البشر مهما كانوا.
    استوى واقفا ، نظر الى الأستاذ كريم بعمق ، مد له يده ، ضغط عليها بقوة وقال: لا تخذلنا ، وستتيقن أنك تدافع عن قضية عادلة أنت أحق بها .. أتركك بسلام
    كريم: شكرا دكتور، سأحاول .
    خرج الدكتور وبقي كريم ينظر الى مساعده ، وساد صمت تحته اضطراب ... وما وجد كلمة يربط بها ليواصل الحديث ، كان حرص الدكتور على تبرئة المتهمة شديدا ، قبوله الفدية مهما كانت ، انه أرحم من اليقين ، موقفه هذا جعل كريم يعيد قراءة شخصية الدكتور من جديد .. أهذا هو الدكتور مجبر ؟ ، لا شك ان له تركيبة أخرى لم يطلع عليها أحد ، تترادف الأسئلة والأجوبة ... أغلق مكتبه وانصرف ، يجتر كعادته حديث آخر مقابلة .. ويفكر في الحاجة القابلة.
    مسكينة تلك الحاجة ،الآن هي في السجن ،على عاتقها جريمتين .. بالمناسبة ألا يمكن أن تكون على علم بماضي خضراء؟.. كيف لم أنتبه لهذا ؟.. أظن أن العقدة أحكمت هنا و بحضورها ، غريب! ، لم يذكرها أحد في كل هذا الذي حدث ، لا شك أن... انها الآن في السجن..
    على الحائط كتابات بالعربية والفرنسية ، وتواريخ ورسومات ، النساء جماعات جماعات ، أغلبهن غير مباليات ، بالعكس كأنهن في عرس ، يغنين ويرقصن ، اللهو والمزاح مستمر ليلا ونهارا ، بعضهن يتصرفن أحيانا تصرفات تثير الفضول وتزرع الشك والتساؤل في النفس ، ألفتهن للانتباه ماما ، هي امرأة في العقد الرابع ، قوية البنية ، طويلة الأطراف تبدو أكبر من سنها ، كأنها رئيسة الجوق ، فتيات في مقتبل العمر ، أهملهن المجتمع وأفسدهن السجن ، من كل الولايات ، التفتت الى التي كانت بجانبها وقالت:
    - هل لك أهل ؟
    الفتاة: مقطوعة من شجرة
    القابلة: يعني من الملجأ
    الفتاة: نعم .. جريمة ، أليس كذلك ؟على كل حال ليس هناك فرق بيني وبين بنت الأصول ، هنا كلنا سواسية ، وجهين لعملة واحدة
    القابلة: انا قابلة في المستشفى أعرفكم جيدا .. ماذا فعلت ؟
    الفتاة: قالوا عني بائعة هوى ، و بائعة الخمور بدون رخصة ، تقاتل ثلاثة شبان من أجلي ، مات أحدهم والآخر في غيبوبة والثالث في حالة فرار .. و .. و ..
    القابلة: أنت ؟؟؟!
    الفتاة: نعم ، أنا ، مستصغرة ؟! هذا وأكثر ، أتمنى أن أكون في يوم من الأيام سيدة قاعة من قاعات السجن ، وأتعلم كيف أدافع عن هوى الشوارع والحدائق ، أقول لك سر آخر ، أتمنى أن أقتل حتى ألمس معنى الجريمة ، لا زلت لا أدرك معناها الحقيقي ، كانت هذه الكلمة ترهبني وترعبني ، أما اليوم والسجن مرقص ، كأني متعطشة للانغماس فيها الى النحر أو أكثر ،.. سأحقق لهم الصورة التي يرسموني فيها
    القابلة: لهذه الدرجة تهون عليك نفسك ؟
    الفتاة: لست أفضل من ماما ولا ماما أفضل مني ، هي الآن موقوفة للجريمة السادسة ، وخيرة للجريمة الرابعة ، وأم الخير لا تخرج من السجن ، كلنا لنا سوابق ... ومن منا أوفى للسجن وأخلص ؟ .. نشكر الاسلام والثورة على مناسبتهما ، نخرج نتنفس الجريمة ونعود ... أنت ، يظهر أنك لأول مرة تدخلين السجن
    القابلة: نعم لأول مرة .. السجن شيء فضيع
    الفتاة: قولي الحقيقة ، كم أجرمت من مرة ؟
    القابلة: الله أعلم
    الفتاة: أنت كذلك تعلمين ، ولكن كنت ذكية جدا ، وهذه المرة خانك شيء ما ، ومن يدري لعلك ستدفعين ثمن كل الجرائم .. على كل حال ستألفين المكان وتتخذين صديقات وتتعلمين أشياء كثيرة ، ان كان في العمر بقية ، أشياء أعماك عنها ما أعمى الحكومة عن جرائمك
    القابلة: أنا متهمة بجريمة قتل امرأة ومولودها أثناء الولادة ، ولكن أنا بريئة
    الفتاة: الذي يقرر ويعرف هل أنت مجرمة أم لا ، هو الشرطي ، وقاضي التحقيق والقاضي الذي يحكم عليك بالمؤبد أو الاعدام ، كلمتك أمامهم لا تساوي شيئا ، لا زلت أذكر نكتة روتها لنا سجينة خرجت ، قالت أثناء الحرب جاء طبيب يفحص الذين سقطوا في الساحة بعد المعركة ، ومن كثرة الأموات فحص جريحا كان يتألم ويصيح ، فقال الطبيب: خذوه انه ميت ، ضعوه مع الأموات ، فحمله المساعدون فقال الجريح: أنا حي لست ميتا ، فقال المساعدون: وهل تعرف أفضل من الطبيب ، أنت ميت ووضعوه مع الأموات ، والفاهم يفهم ...
    انصرفت الفتاة لشأنها تغني وترقص ، تتمايل كأنها جارية في قصر الأمير ، وتركتها في دوامة الرعب والقنوط ، انها في يومها الثالث ، لم تأكل شيئا ، يرقرق الماء وحده في جوفها كالقربة ، وجاء يوم الاستقبال ، كانت في حالة احباط تام وارهاق جسدي زاد في سنها عشر سنوات حتى انحنت ، تقدمت الى الشباك والدموع تنهمر من عينيها ، عائلتها خلف السياج المقابل
    الزوج: لا تخشي شيئا ، لقد عينا محاميا بارعا ، انه كريم ابن الحاج لشرف ، ولد سترة صديقتك ، تهز رأسها وتعض شفتها التي ظهرت عليها بوادر الابتسام وقالت تستعطفهم أكثر:
    اسمحوا لي ، أتعبتكم ..
    الزوج: لا تقولي هذا ، الجميع يسأل عنك
    ابتسمت وفاضت عيناها بالدموع من جديد
    القابلة: بلغوهم تشكراتي
    الزوج: اليك ببعض المأكولات والفواكه ، ستأتيك الحارسة بها ، سنعمل المستحيل لاخراجك من هنا ، وفي أقرب وقت ، عليك بالصبر فقط
    رن الجرس وانصرف الزوج والأولاد ، وأدخلت السجينات ، وعادت القابلة الى مكانها تجتر ماضيها ... لماذا لم يأتي المحامي بعد ؟ حتى يطلعني على محتوى ملفي ، أتراهم اقتنعوا باجابتي عن كل تلك الاتهامات التي وجهت الي ؟ ماذا أثبتت التحريات ؟ ما تلك الملفات التي جاء بها رئيس مصلحة الأمومة ؟ ، وماذا قالت القابلة المتقاعدة ؟ ماذا قال المدير ؟ لماذا استجوبوا كل هذا الحشد من العمال ؟ لا شك أنهم سيعذبوني لانتزاع مني ما يريدون من اعترافات ، قالوا أن لهم وسائل جهنمية يعترف بها الجاني عن قتل آدم وحواء ، حتى تتوسع دائرة الرشوة لافقار قارون و ذله ، سيتفطن زوجي لهذا ، ويبذل ما أمامه وما وراءه للافراج عني ، وكريم محامي قدير وشهم ، وما قدمته لهذه العائلة من خدمات لا يعوض بمال منها حادثة خضراء ، وسرها الذي لا يعلمه غيري ، بما بامبرا و نونة الشبح ، سرلا يعوض بثمن ، هذه القنبلة الموقوتة أخشى أنه حان وقت انفجارها ،و ستدفع سترة ثمنا باهضا ، ربما سكتة قلبية ، ذلك هو ثمن الخيانة ، يأتي دائما بآخر الحساب ... سيدافع عني كريم بكل ما يملك من وسائل ونفوذ ، ليس له الخيار ، سترغمه أمه على فعل أي شيء ، نعم ، سيفعل ... كانت تتكلم وتشير بيديها ، فتقدمت اليها ماما ووضعت يدها على كتفيها ، فارتعشت ، حاولت أن تخفي قلقها ، ولكن خانها الصبر ففاضت عيناها وأسندت رأسها على صدرها وهي تشهق .. اني خائفة يا ماما ، اني خائفة
    ابتسمت ماما ساخرة ، تنظر الى الأخريات وقالت لها:
    لا تخشي شيئا يا ضنايا ، هي أيام قليلة وتتعودين ، الله !! تبكي وأنت في هذا السن يا شيخة !! وماذا يفعل العيال مثلي ؟
    القابلة: انه آخر عمري ، هي العاقبة التي تبكيني ، أخشى أن أقضي آخر أيامي في السجن
    ماما: لا ، لا تخشي شيئا ، بقاؤك أو خروجك مرهون بحلوة الى القاضي و فدية الى أهل الضحية ، ناس اليوم يتاجرون في كل شيء ، ألم تقولي أنه خطأ مهني ؟! اللهم الا اذا كان هناك قضايا أخرى
    القابلة: أخشى من التلفيق ، عائلتنا ميسرة ولم نقع بين أيديهم الا هذه المرة ، سيجردوننا من كل شيء
    ماما: لك أن تشتري براءتك بالدينار ، فقط جريمة الكرسي لا تغتفر هنا .
    القابلة: المهم أخرج من هنا ، نحن لم نخلق للسجون ، ولا نبخل على أنفسنا بشيء ، نخطئ ونشتري كرامتنا بأي ثمن ، المهم نحافظ عن شرفنا .. السجن شيء رهيب لا يصلح الا للمنحرفين .. أنظري ، أغلبية المسجونات شابات في مقتبل العمر ، ولا فيهن واحدة تجاوزت الخمسين ، لا زلنا نحن نستر عيوبنا ونخشى الفضائح ، أما أنتم تشترون الجريمة وتجاهرون بها بل تفتخرون ، ما كنت أتوقع أن السجن يستر كل هذه العيوب ، وهذه البشاعات .. تجردتم من القيم والأخلاق ، ما كنت أصدق عندما كانوا يقولون لي أن السجن مثل القبر يستر المتعفن ..
    ماما: من غيركم فعل بنا هذا ولا يزال ؟ يا أهل الشرف ، هذه التي أمامك اغتصبها طبيب ، وتلك اغتصبها دركي ، والأخرى نافذ والأخرى شرطي ، وحتى كبار المسؤولين ، وكلكم ، تغتصبون الخادمات و تتحرشون بالكاتبات وغيرهن ، نحن يا أيتها الشريفة جرائمكم ، نحن الوجه الحقيقي وراء أقنعتكم ، وعشرات الفتيات اغتصبهن الارهاب الأعمى ، هكذا عندما تنتهون من أكل الفريسة تأكلون بعضكم بعضا ، أنتم من حكم علينا قبل القضاء ، وشوهنا قبل القدر وعوق حياتنا ، ألا تستحي ؟ السجن بنيتموه يا أيتها الشريفة لستر بشاعاتكم وافرازات حماقاتكم ... فلا تحاولي ، يا أيتها السيدة الشريفة ...
    بهتتها ، كانت حينها تنظر اليها بعيون الدهشة ... مثل هذه في السجن ! يظهر أنها واعية ومثقفة ، القاضي الذي حاكمها لم يراع أي شيء ولم يأخذ بعين الاعتبار أي عامل ، انهم يحاكمون الناس وكأنهم العبيد والجواري ، بل أكثر من هذا ، أين مسؤولية المجتمع في هذا المصير المفروض؟... لم تعد تسمع كلام ماما ، هي الآن أمامها شفاه تتحرك وأيد ثائرة ، ونظرات تتطاير منها شظايا الغضب وشرارات الكره ... لم تعد تسمع الا أنتم .. أنتم ... أرادت أن تسكتها فدفعتها وواصلت ، كفرنا بكل قيمكم ، وشرعياتكم ، وشرائعكم ، ومقسداتكم ، أنتم من صنع مواطنين من الدرجة الأولى ، وصنع منا العبيد والرجعيين والكفار ، والظلامين ، أنتم وحدكم أبناء هذا الوطن وغيركم طحالب .. أنتم .. اجتمعن عليها وكأنهن أشباح ماضيها ، خرجن من قبورهن لحضور المحاكمة ، وجوه أخرى خلفهن ، أطفال ، نساء ، فتيات، كلهن ملطخات بالدماء ، يحيطون بها ، يتردد صدى كلماتها في عمق رأسها ، وضربات كأنها على الصناجة انتفضت ذاكرتها التي كانت في عمق النوم وأيقظت الضمير ... وضعت يدها على وجهها وانحنت فوق ركبتيها ... لما رفعت ، وجدتهن قد تفرقن ، وحدها ماما أمامها .. نظرت اليها ، ستدفعون الثمن غاليا ، أشاحت بوجهها وذهبت
    القابلة: يا هذه ، ما أنا الا حلقة في هذه السلسلة التي تذكرين ، ولو كنت كذلك ما وصلت الى هنا أبدا يا بنيتي ، هوني على نفسك ، لماذا كل هذا الحقد والكره ؟ يكفيني ما أنا فيه ، تريديني أن أدافع عن قدر كتبوا منه بيدي مرغمة ..
    ماما دون أن تلتفت: لم نقل لكم أنجبونا ، أنانيتكم هي التي صنعت جيلا تسميه أنت مفككا وغير أصيل لا يؤمن بأي شيء ، لأنكم كذبتم علينا تلك الكذبة ، سميتموها بيضاء في طفولتنا ، وبالغتم حتى أصبحت سوداء ، لم تترك لنا منفذا لرؤية الحقيقة ونتبين ، و الآن نحن على ما نحن عليه ، لن نغفر لكم أبدا ... أبدا ، لقد حكم التاريخ ، فانتظروا لحظة التنفيذ ... انها أقرب ..
    انصرفت وتركتها في حالة انهيار عصبي رهيب ، ومن تلك اللحظة اعتزلنها جميعا
    وفي اليوم الموالي ، فتحت الحارسة الباب ودعتها ، كانت فرحتها شديدة جدا لما رأت الأستاذ كريم
    القابلة: كريم ، ابني ، تأخرت عني كثيرا
    كريم: هوني عليك يا خالة وهدئي من أعصابك حتى نستطيع أن نتكلم ، استقرار حالتك النفسية يساعدنا كثيرا على ايجاد مخرج بسلامة ، اجلسي ، لكي أضعك في الصورة
    جلست وهي تنظر الى تقاسيم وجهه لعلها تدرك شيئا ... جلس ، نظر اليها ، ابتسم وقال:
    مهما تكن التهم الموجهة اليك ، أنت في نظري يا خالتي بريئة ، حقيقة ملفك ثقيل جدا ، واذا لم تساعديني بالصراحة وتخبريني بالحقيقة ، سأقع في متناقضات ، ولا أستطيع أن أدافع عنك لأفتك البراءة مهما عملت
    القابلة: أقسم لك أنه كان خطأ مهنيا
    كريم: واستبدال المواليد ، والاجهاض ، ووفيات الأطفال ، وموت الوالدات ، وهذه ليست المرة الأولى ، أنت متهمة كذلك بالمتاجرة بالرضع
    القابلة:كل هذا ؟! المتاجرة ؟.. من قال هذا ؟
    كريم: وأكثر ، اني أنتظر اكتمال الملف ، وبعد مرورك أمام قاضي التحقيق سنتكلم بالتفصيل ، حتى الآن لم تتضح الرؤية جيدا ، سأكون حاضرا في كل الاجراءات ، فكوني قوية ، ودافعي عن نفسك بكل شجاعة ، مر من هنا من هو أكبرمنك تهما وأثقل ، واستطاعوا أن يحصلوا على البراءة لأنهم كانوا حقيقة أبرياء ، سأنصرف الآن وأتركك ترتبين أفكارك حتى نتكلم بدون ارتباك وبموضوعية ، كوني على يقين أني سأدافع عنك حتى آخر نفس، فقط كوني صادقة معي ، وحتى لو حكم عليك سيكون الحكم خفيفا لأننا سنحاول أن نكون صادقين قدر الامكان بعيدا عن التوريط ، وغير متنصلين من مسؤوليتنا .. لا تديني نفسك قبل الحكم بالخوف والقلق
    القابلة: سأحاول
    كريم: سأعود اليك .. أتركك بخير ..
    كعادته ، دخل متأخرا ، جلس على حافة مكتبه يرتب التهم ، ويستجمع أفكاره التي بعثرتها القضية ، قام وجلس على الأريكة ، وضع رأسه على المسند وراح ينظر الى الثريا .. يا لطيف كأنها حبل مشنقة ، هكذا حتى فتح الباب فجأة ، استدار ، انها أمه تحمل طبق العشاء ، وليس من عادتها ، فقام اليها ، أخذه من يديها ، وضعه على الطاولة ، أجلسها وقال:
    أنت ؟! لماذا ؟ أين ثورة ؟
    الأم: أردت أن أستعيد تلك الأيام الجميلة ، لما كنت في عنفوان شبابي ، أخدمك ، قبل أن أصبح عجوزا .
    كلماتها أعادته الى ذلك الزمن الجميل بحضور خضراء ، أراد أن يغتنم الفرصة ، الا أن الوقت ليس مناسبا ، لا يريد تعكير الجو و لفت الانتباه الى هذا العامل الجديد ..
    كريم: أبدا ، يا أمي ، لا زالت البركة ، لايزال الحاج يغار عليك .
    ضحكت ملأ فاها وابتهجت ، ثم انقلب وجهها فجأة ، وعاد ذلك الوجه العبوس الحديدي ، بلمسات شجونه
    الأم: أخبرني ماذا فعلت في قضية القابلة
    كريم: هي أول قضية سأخسرها بجدارة ، صدقيني يا أمي اني أشك في براءتها
    الأم: لا يا كبدي ، انها أمكم جميعا ، تقف علي دائما في المخاض والوضع ، ساعدتني في ولادتكم جميعا ، يجب أن تفتك لها البراءة مهما كلفك ذلك ، ولا تسمع كلام الناس فيها ، أعرفها ، انها امرأة شريفة ، لكنه الحظ يا بني ، كل تفانيها في العمل لم يشفع لها عندما أخطأت ولأول مرة ... نعم ولأول مرة .
    كان يتابع حديثها و الريبة تتزايد ، و الظن يتشكل رويدا رويدا في نظره الى يقين .
    كريم: سأحاول يا أمي ، الا أن القضية أصعب مما تتصورين ، لا أخفي عليك انها متهمة بتبديل المواليد الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى، مقابل مبالغ مالية باهضة ، زيادة عن الاجهاض وتوليد الأمهات العازبات والتخلص من مواليدهن ، انها تتاجر يا أمي ، أنتظر فقط استكمال الملف حتى أطلع على أقوال الشهود و أقوال الضحايا .. انها جريمة في حق الانسانية ، يعاقب عليها القانون بشدة
    الأم: تبديل المواليد ؟ ! الا هذه ، أبدا ، أبدا ، غير ممكن ، لا أصدق .. حسدوها المسكينة ، ولا يزالون يلفقون لها التهم ، وصدقني ليس بيدهم ما يثبت ذلك ..
    كريم: يا أمي ، القانون هو الذي يدين أو يبرئ ، شهادتك لا تفيدها أمام القضاء .. أطمئنك أني سأبذل أقصى ما يمكن لاخراجها من هذه الورطة وبأخف ضرر ، هذا اذا كانت بريئة حقا
    الأم: أتمنى أن لا تصدق ما يقال عنها يا بني
    كريم: حتى الآن هي اتهامات نتمنى أن نجد ما يفندها
    الأم: صدقني أنا أمك ، كل ما يقال عنها كذب وافتراء
    كريم: أمي أرجوك ، انك طيبة وعلى نيتك
    الأم: أتمنى لك التوفيق ، ولكن احرص ، فضلها علينا كبير
    كريم: أعدك أنني سأدافع عنها كأنك أنت
    الأم: بورك فيك يا بني ، لا تصدق ما يقال عنها ، انها أشرف امرأة عرفتها في حياتي ، نجتني من الموت عدة مرات ، كان المخاض دائما يأتيني عسيرا ، وكانت اصابتي بالقلب تزيد في صعوبة الولادة ، كلكم نجيتم وخرجتم الى الحياة التي تتمتعون بها بفضل تفانيها معي وسهرها علي ، حتى تلك الأفعى السوداء ، و بعد أحمد نصحتني بالتوقف نهائيا عن الحمل ، رغم حرص الحاج عن المزيد .
    كريم: الأفعى السوداء ! تعني خضراء ؟
    الأم: نعم ، نعم .. آه ..هي قالت لي ذلك ، قالت أنقذتها بصعوبة ، ولما ماتت أمها لم تغفر لنفسها ذلك رغم الأجل والموت الطبيعية ، لقد صامت شهرين وتصدقت بنصيب من المال ، ولا تزال تستغفر الى اليوم
    كريم: لو كانت خضراء هنا لساعدتنا كثيرا ، بصفتها كانت تعمل في نفس المستشفى
    الأم: ما أعرفه أنا أكثر مما تعرفه خضراء
    كريم: لا علينا يا أمي ... سنجد في المستشفى من يساعدنا على كشف الحقائق ، وسنجد من سيشهد لها أو عليها .
    الأم: لا تزال الشكوك تساورك ، ولم تقتنع بعد ، أعرفك جيدا ...
    كريم: يا أمي ، ملف المرأة ثقيل جدا ، يجب أن أقتنع أنا أولا حتى أعرف كيف أدافع عنها ، هذه قضية تتطلب محامي أكثر مني خبرة وتجربة واطلاعا على خفايا الجرائم ، محام صهرته التناقضات والممارسة الطويلة في معالجة قضايا الاجرام ، ولهذا أفكر منذ الآن في عرض الفكرة على الادارة ، أتمنى أن يعفوني من هذه القضية ، لأنها ستسيئ الى سمعتي ، وفشلي في نظر الناس سيبدأ من هنا ، أنا لا زلت في البداية ، ينقصني الكثير ، والقضاء في وطننا لا يزال برزخا تحت الكثير من الممارسات والمخلفات البائدة ، لا القاضي حر بمفهوم القانون ولا هو مقيد به ، ولا المحامي جريء بالدرجة التي تجعله يعتمد على النص القانوني والدراسات العلمية للمرافعة في قضاياه ... مفهوم الجريمة محدد على الورق فقط ، أما الواقع غير مانتعلمه في الكليات ، هل فهمتي ؟!.. ما أحمقني ! وكأنني أخاطب عميد نقابة المحامين ، أعطيك مثلا بسيطا ، ممكن أنني أتعب وآتي بأشياء كثيرة تثبت براءة موكلي ، ويقتنع القاضي ، ويقدرني في نفسه وتدهشه براعتي ، ولكن يكون قد تلقى شحنة مال أو مكالمة من الأعلى ، فأظهر أمامه دونكيشوتيا أو مهرج أو شبيه ذلك .. بعض المحامين يبرؤون موكليهم قبل الجلسات ، لنفوذهم ومعرفتهم أبواب القضاء الحقيقية التي لا تفتح الا عندما يغلق قصر العدالة أبوابه
    الأم: لماذا اخترت هذه المهنة ؟
    كريم: وكأنك يا أمي لا تعرفين هذه الأشياء ، انها الهواء الذي يتنفسه أبي في قضاء جوائجه ..
    اخترتها يا أمي ظنا مني أنه سيأتي اليوم الذي تحتاج فيه بلادي الى أبناء مخلصين ، شرفاء ، شباب ، أخطأ أباؤهم ، فيأتوا لاصلاح ما أفسدتم لبناء واقامة الدولة ، التي لا تزول بزوال الأشخاص ، انظري أمي الى الشارع ، حتى الأطفال يخربون كل شيء يرمز الى الدولة ، الأشجار ، اشارات المرور ، سياج الحدائق ، مواقف الحافلات ، يكتبون على جدران المراحض العمومية ، على جدران المدارس ، الشباب والمراهقون منهم يمزقون مقاعد الحافلات ،و اللافتات ، يفسدون أي شيء تابع للدولة ، انهم يا أمي يمارسون الرفض بامتياز ، والجميع ينتقم ، من لا يفعل لا ينهي ، هكذا تبدأ الانتفاضات ، كنار التبن ، هذا كله لأن حرب التحرير التي لا تلد ثورة تطهرها من الانتهازيين تبقى ناقصة وتتحول الى وبال على أمتها ... هكذا علمنا التاريخ .. الحمد لله اني أقول هذا الكلام لأمي، والا فمصيري السجن ، حتى لو كان كلامي هذا مجرد انفعال، يعاقب قائله ، لأنه جريمة في نظرهم وخيانة كبرى يحاكم أصحابها في المحاكم الخاصة ، والاعدام هو أخف الأحكام ، جيلكم يا أمي رهيب ، رهيب .. رهيب .. أصعب جيل عرفته البلاد ، زور التاريخ ، سلخ الأمة ، مسح الهوية ، زرع الفتنة التي لا تنام حتى تقسم ظهر الأمة ، وستحتاجين يوما الى جواز سفر للذهاب عند خالك في الشرق أو عمك في الغرب أو صهرك في الجنوب وبتأشيرة ولم لا ؟ زرعتم الحقد والكراهية ودنستم التاريخ ، رفضه هذا الجيل جملة وتفصيلا ، اشتريتم الأيادي والألسنة وقهرتم القلوب وكثرت الخفافيش والفجر بعيد ..
    الأم: تقول كل هذا لأمك ؟ سامحك الله يا بني ، سامحك الله
    كريم: لأنك أمي ، أقول لك هذا وأكثر ، أقول لك هذا الكلام لأنك في اعتقادي أنت الوطن ، الذي يجب أن يحتوينا جميعا بعيوبنا ونقائصنا ، أتصورك كذلك لأن مصيرك لم يكن أبدا في يوم من الأيام في يدك ولا في أيدينا.
    حضنها بكل رفق ، قبلها على الجبين وقال:
    مجرد حلم يا أمي ، لا تخشي شيئا ، لا نزال نيام
    الأم: فزع قلبي وتكدر ، أخشى عليك حتى من أمك
    كريم: أنا أعرف ، لم يسمعني غيرك ، فلا تخشي علي
    الأم: شغلتك عن طعامك حتى برد ، أسخنه وآتيك به
    كريم: لا ، لا يا أمي ، لا تتعبي نفسك سأفعل وحدي
    الأم: أبدا ، دعني ، أحب أن أخدمك بنفسي في انتظار العروس التي ستخطفك مني ، أتمناها محامية مثلك حتى تفهمك
    نظر اليها وهي تحمل الطبق وتخرج من المكتب ، كأنها تغادر قاعة عرض ، انغلق الباب وراءها بكل هدوء تدفعه النسمة العابرة من هنا ، وعم الصمت من جديد ، تتساقط شظايا انفجاره على بسيطة العقل باردة ، كأنها قطع من الثلج ، وقف وسط المكتب سارحا يجتر حديثه وينظر الى صورة على الجدار ، ألوان ولمسات يتعدد تشكيلها كأنها السحر ، وتختلف قراءتها من زاوية الى أخرى ..
    كريم: سآكل جملا أو فيلا لو قدمتيه لي ، اشتقت الى الأكل من يديك
    الأم: تسلم يا بني
    وقفت هنيهة تنظر اليه وتحتويه بابتسامتها ثم خرجت ..
    تذكر خضراء ، وأطباقها اللذيذة ، تذكر عندما كان يمازحها وهو يقول ، حتى ولو برجلك أنت ماهرة .. وهو يمضغ ويمضغ ..ويمضغ وأبت اللقمة أن تبتلع ، شيء ما سدها ، زاد عليها جرعة ماء وبلعها مستكرها ... أين أنت يا خضراء ... أرجوك كوني بخير اني أقترب ..
    في مساء اليوم الموالي ، وكان يوم جمعة ، اجتمعت الأسرة كلها في الصالون ، الأب ، الأم ، ثورة ، كريم ، حتى نونة الغائبة الحاضرة ، لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر شيء على القلب ، ينظر اليها كريم ، يستغرب ، كيف استطاعت أن تجعل الجميع على الهامش ، سكنه هاجس الفضول ، كيف استطاعت أن تطوع هذه السلبية المعلنة ؟ ..
    رغم تركيز نظرته اليها ، لم يحرجها ولا ظهر على وجهها شيء ، كأنها تمثال الحديقة ، تحتفظ دائما بنصف ابتسامتها التي تجعلك تقف هنا .. لا تسأل ولا تجيب ، هي رأي الجميع ، يتساءل ، كيف كانت علاقتها مع خضراء ؟ وهل تعرف حقيقتها ؟ وهو كذلك حتى سقط عليه السؤال
    الأب: ماذا عن قضية القابلة ؟
    كريم: آه .. القابلة ، يحتاج الى شيء من الوقت لدراسته ، ملف متشعب والتهم كثيرة ، يتطلب تحريات وتحقيقات خارج الورق
    الأب: ستتحول الى محقق ... بوليس
    نظر اليه كريم وقاطعه مواصلا
    البحث في ماضي الناس جريمة لا تغتفر ، تصور لو أكتشف أشياء لم يكتشفها البوليس ، هل أسكت عنها لأنها موكلتي ؟ أما شهادة المحيط ، تكاد تتوازن ، الادانة والبراءة لا زالتا بعيدتان
    الأب: المحاماة تحتاج الى مكر وخداع وذكاء وجرأة ومراوغة الثعالب ونفوذ .. يا ولدي أدهن السير يسير
    فهم كريم قصد أبيه فسكت
    الأب: اياك واياك يا ثورة من قراية الحقوق ، يضيع منك كل شيء .. وضحك
    ثورة: ما عدت الى الدراسة بالمراسلة لتعلم الثرثرة ، فهذه أنا أحسنها منذ زمان ، الأدبيات كلام فارغ ، سأتحصل على البكالوريوس علمي ، الحقيقة والحقوق في المخابر والورشات ومكاتب الدراسات ، الحقيقة هنا تراها وتلمسها ، ليست سرابا أو تنتظر العالم الآخر لتراها وتلمسها ، نحن العلميون لا ننتظر الآيات بل نصنعها ..
    كريم: احذري أن تصنعي صاعقة تدمر العالم فتكون نهاية البشرية قبل أوانها وعلى يدك
    ثورة: نستنسخكم ، لا تخشى شيئا ، نصنع مخزونات للخلايا البشرية ، وبعد انتهاء مفعول الصاعقة نستخرجكم
    كريم: جميل جدا ، رائع ، أرباب جدد لعصر جديد ، انه جنون البشرية الذي يمكن أن يفسد السماوات والأرض ، وها أنتم بدأتم بطبقة الأوزون ، ما أتفهكم ، وما أعظمك يا ثورة عالمة رسوم متحركة
    ثورة: كريم .. يكفي ، تريدني أن أخرج ؟
    الأم: يا ثورة ، تأخذين كل هزل جد ، طموحك مشروع ، ولكن للمزاح مكانته في كل جد بين الاخوة
    كريم: دعيها ، اذا تعدت المحضور لن أدافع عنها
    ثورة: لا أحتاجك ، اختراعاتي تدافع عني وعن نفسها ، واكتشافاتي مهما كانت تخدمني
    كريم: وستخسرين الكثير بهذا التفكير ، حتى وأنت في عالم الكارتون ..
    الأب: العشاء جاهز يا ثورة ؟
    ثورة: نعم ، لا تنتظر الأخبار ؟
    الأب: لا ، نتعشى لتنصرف عمتك ونواصل
    ثورة: النقاش مع كريم مهزلة ، هو لا يرى المقدس الا في القانون ، أما العلوم الأخرى فهي عبيد لجلالة القانون
    كريم: وهذه هي الحقيقة
    ثورة: الحقيقة التي يختلف فيها كل الناس
    كريم: اذكري لي من خالف من ؟
    ثورة: كلام فلسفي لا أطيقه
    كريم: ما أطول لسانك وأقصر باع علمك
    ثورة: سأدخل الى الجامعة وسترى
    كريم: نعم ، جامعة سبيستون .. ابدئي الآن بتقديم العشاء ويومها سنرى ، أنت مملوءة بالحشو الأحمر
    نظرت اليه وانصرفت كالزوبعة ، تركت الجميع في حضن الابتسامة الساذجة ، وكأنهم صدقوها
    الأب: لا تهدأ حتى تهيج أمواجها
    كريم: يا أبي في الثانويات تيارات فكرية ، بقدر ما تفيد تفسد ، هذه التيارات غير مراقبة والصراع الثقافي والاديولوجي يبدأ من هنا ، العلم نور فاذا تجاوز حد العقل يضر أكثر مما ينفع ، فلتكن علمية اذا أرادت ولكن بأفكار نيرة وانسانية بعيدا عن الحديد والنار
    الأم: هكذا كنت أنا ، عنيدة ، لكن مع النساء فقط ، أما الرجال فكانت جلساتنا معهم قليلة ، حتى المدرسة في عهد الاستعمار ، واحتراما لديننا وتقاليدنا ، بنوا مدارس للذكور ومتوسطات ومدارس ومتوسطات للبنات ، المعلمون يدرسون البنين والمعلمات يدرسن البنات ، لا زلت أذكر يوم أحرق الحجاب في ساحة الشهداء رمزا لتحرير المرأة ، كان حينها الفاعل يرتدي بذلة صينية ، وكم حز في أنفسنا لما سمعنا بسجن الشيخ الابراهيمي ، رئيس جمعية العلماء المسلمين آنذاك ..
    الأب: وبعدها كان ابنه وزيرا للتربية الوطنية
    الأم: بعد وفاته
    الأب: والله لا أذكر ، المهم كان ذلك
    كريم: هذه شهادات يسجلها التاريخ ، يجب أن نحتاط ونتحرى عندما نتكلم في أمور كهذه .
    عادت ثورة تحمل الطبق وهي تقول:
    تصور أخي كريم لو كان أول رئيس امام ، لكان الوطن كله مساجد
    كريم: مساجد أفضل من ثكنات وسجون
    ثورة، لا فرق ، الا أن المساجد باقية على حالها والثكنات والسجون تطورت بكثير
    كريم: بل تفننت
    الأب: يا ثورة ، يا ثورة ، لك الحق في كل ما تقولين الا في شؤون الدين .. مجتمعنا لا يرحم ، لا تجاهري بهذا الكلام ، ذهبت أنا وجدك الى الحج وبذلنا أموالا كثيرة ونحن نتصدق على الفقراء ، ونتوسط للناس في قضاء حوائجهم ، كل هذا لتحافظ أسرتنا على منزلتها ونفوذها ، فلا تضيعي هذا العمل من أجل فكرة أنت غنية عن حملها اليوم
    كريم: وربما تتخلين عن هذه الأفكار يوما ، وتتراجعين عندما تتجاوز أفكارك مرحلة المراهقة الثقافية
    ثورة: اطمئن لن أتراجع
    التفت الأب الى أحمد آخر حبة في العنقود ، وهو يضحك
    الأب: وماذا تقول يا أحمد ؟
    أحمد: هذه كافرة يا أبي ، كما قال الشيخ حفظه الله ، دهرية ستأكلها النار وهي حية تسعى
    ثورة: أدخل وحدك الى الجنة
    أحمد: أبي أرجوك ، هذا مجلس نحاسب عليه ، وأنا لا أطيقها .. سفيهة
    الأب: لا ، لا يا أحمد ، لا تغضب ، ديننا يحترم حرية الرأي والخلاف ، الدين يا بني يسر ورحمة
    أحمد: يا أبي نحن ملزمون بالشرع ، والخوض في مسائل عقائدية يسوقنا الى الكفر عن قصد أو غير قصد ، هي لا تزال لم تتجاوز الثانوية ، وبدأت تؤسس للفكر الجحود ، انها تردد ما لقنها بعض الأساتذة المنحرفين ورفاق السوء ، هذه الدروس الحرة هي في الحقيقة أوكار لنفث السموم .. و
    الأب: ثورة يا أحمد ، أنت تعرفها لا تؤمن بما هو فلسفي ، انها تعيش التجربة بالملموس ، تجهل الأدبيات مثل الشعر والقصة والتاريخ ، هذه المواد التي تعتمد على على التلقين والحفظ ، تقول انها مواد يتفوق فيها الأغبياء ، ومن أجل هذه المواد طردوها من المدرسة وأعدناها الى الدراسة بالمراسلة ، واستطاعت أن تثبت جدارتها في العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها
    أحمد: هؤلاء العلماء الذين نظروا وجربوا ، علماء مخابر الشرق والغرب ، يدخلون الى الاسلام أفواجا أفواجا ، أرجوك يا أبي ألزمها حدها
    الأب: احترموا بعضكم بعضا ، الذي يهمني نجاحكم
    أحمد: ان شاء الله يا أبي ، دكتوراه في الشريعة الاسلامية من جامعة أم القرى، قالوا انهم يحفزون الطلبة بتسهيلات كثيرة ، ويساعدون طالبي العلم الشرعي ، هذا حلمي يا أبي ولكنه بعيد
    الأب: الله ، الله ، هكذا مرة واحدة ... السعودية ، لا تكفيك جامعة قسنطينة
    أحمد: أريد أن أرتوي من العنصر ، يا أبي الاسلام جاءنا ، وأنا أريد أن أذهب اليه ، والرجوع الى الأصل فضيلة ، هناك المنبع الصافي ، هناك النص والحس
    ثورة: تصبحون على خير ، سأقوم مبكرا لآداء بعض الحركات الرياضية ، يجب أن أرتاح
    الأم: أتعبناك يا كبدي ، ليلتك أسعد
    ثورة: بركتك يا شيخ أحمد
    وانصرفت تضحك ملأ فاها
    الأم: عندما تتزوج لا ندري ماذا نفعل ؟
    الأب: نبحث عن خادمة
    الأم: خادمة في بيتي ! .. أبدا ، الا هذه
    أحمد وهو ينصرف: لو بقيت خضراء لكفتكم
    الأم: لا تزال هذه اللعنة تطاردنا ، حتى هذا الذي يدعي الاسلام
    كريم: لا تقلقي يا أمي ، هذا مجرد كلام
    الأم: صرت لا أحتمل حتى اللون الأخضر
    ويعود أحمد يتحسر، أعتذر ، لقد نسيت ، هناك فوق المكتبة استدعاء من الشرطة لأبي ، قال انه يخص خضراء ، قلت له أنها ليست هنا ، فقال لي أعرف ذلك ، قل للحاج يأتي الى القسم نحتاجه ...
    الأم: الشرطة ! استدعاء ؟ لعلها تكون قد قامت بوقاحة ما ، خذه يا كريم ، الحاج تعبان ، ولا ندري ما وراء هذا الاستدعاء
    الأب: هذه هي المهازل التي أخشاها ، والبهدلة ..
    أخذ كريم الاستدعاء ، وضعه في جيبه وانصرف ، تركهم في دوامة الأسئلة والتساؤلات ، غريب ، العمة تأخرت الليلة ، وكأنها كانت تنتظر المفاجأة ، ينظر بعضهم الى بعض في مبارزة الظنون .
    الأب: لم يبق الا هذا ، الحاج لشرف في مكتب المباحث ، يا فضيحة آخر العمر ، يا بهدلة العاقبة ، أنا ، أنا عند الشرطة ، كل هذا حصيلة حماقتك يا سترة ، ماذا يقول عني الناس ؟











    الفصل الخامس

    أدخلتها الحارسة الى غرفة الاستقبال ، لا أحد فيها ، جلست ، ولما رفعت بصرها رأت صورا معلقة على الجدار ، صور لحادث مرور ، سيارات تداخلت في بعضها بعضا ، جرحى ، شرطة ، مارة فضوليين ، قامت اقتربت ..مؤخرة شاحنة ، شيء فظيع ، امرأة مستلقية على بطنها ، منكشفة الساقين حتى الفخذين ، امرأة سوداء في سنها ، آه ، انها هي في هذه الصورة .. هذه أنا ؟ .. نعم أنا لا شك في ذلك ، ومن هؤلاء ؟ جثة ملقاة هنا وأخرى هناك ، رجال يرتدون مآزر بيضاء بمحامل ، هذه صور المصابين ، لا تعرف أي واحد منهم ، تحاول أن تتذكر شيئا ، لا تقدر ، انه الحادث الذي تكلمت عنه محاضر الشرطة .. عادت الى صورتها هل يمكن أن أكون أنا ؟ .. وهي كذلك حتى دفعت الباب ودخلت ، انها الحارسة .
    هيا الى القاعة ، لم تأتي و أجل اللقاء الى الأسبوع القادم
    السوداء: أي لقاء ؟
    الحارسة: لا يهم ... هيا
    لما دخلت الى القاعة ، وجدت سجينة جديدة ، مرت الى مكانها دون أن تكلم أحدا .
    الجديدة: تعالي هنا
    أخذت تنظر اليها ، امرأة كالجبل قصيرة الشعر ، دائرية الوجه ، عريضة الذقن ، شفاه غليظة ، وأنف صغير ، كبيرة الأذنين ، طويلة الرقبة ، لا يتجانس فيها شيء كأنها مركبة من بقايا أجساد متنافرة ..
    امتدت فوق فراشها غير مبالية بها ، واذا بالضربة تأتيها من الخلف على الرأس ، أرادت أن تقوم فأصابتها أخرى في الرقبة ، وواصلت الركلة تلوى الأخرى ، ولما أفاقت وجدت نفسها على سرير العيادة ، لا يزال رأسها يوجعها ، كتفها ، رقبتها ، صدرها ، وكأن آلية أشغال مرت فوقها ، حاولت أن تقوم فلم تستطع ، استوت بصعوبة جالسة ، جاءت الحارسة ، تسوقها الى القاعة ، تبحث عن السجينة الجديدة فلم تجدها ، فانفجر الجميع بالضحك وقالت احداهن:
    ستعود في المساء ، عاقبوها من أجلك ، هل تريدين أن تثأري لنفسك ؟
    لم تقل شيئا ، وأخذت مكانها ، تناولت عشاءها ونامت رغم الضجيج ...
    في اليوم الموالي قابلت المحامي
    المحامي: يكذب من يقول لك أنه باستطاعته أن ينجيك من حبل المشنقة ، الحكم مرهون بالاطلاع على حقيقتك واستعادة ذاكرتك ، فقدان ذاكرتك لا يكفي في المرافعة ، لأنهم قبضوا عليك في الحادث متلبسة ، هكذا أنت متورطة ، وكانوا متأكدين أن في العصابة امرأة سوداء ، حملت عدة أسماء بوثائق مزورة ، سقوطك في أيدي الشرطة غنيمة لا تعوض ، وانجاز عظيم في محاربة الجريمة المنظمة ، ولهذا أنصحك بالكف عن المراوغة ان كنت فاعلة ونلتمس لك التخفيف ، أقول هذا الكلام ليس عن قناعة أنك مجرمة ، لكن ليس لي أي شيء أعتمد عليه في الدفاع عنك ، والا ستبقين هنا دون محاكمة الى أجل غير محدود ، وستختفي مع طول الزمن ... هل زارك الطبيب النفساني ؟
    السوداء:لا ، زارتني امرأة ، رئيسة جمعية نسوية ، قالت أنها تنتمي الى منظمة انسانية تعتني بمن هن مثلي
    المحامي: سيزورك عن قريب ، ولهذا حاولي مساعدته لاخراجك من هذه القوقعة .. هل ضربوك في السجن ؟
    السوداء: لا ، شجار مع سجينة جديدة
    المحامي: ماذا فعلت الادارة ؟
    السوداء: قالوا عاقبوها
    المحامي: يا سوداء ، حسني سلوكك في السجن لعله يشفع لك
    السوداء: لا تحمل همي يا سيدي ، قم بالذي تستطيع القيام به ، ما أصبح يهمني شيئا ، كل هذا التهويل لا يخيفني ، أنا الآن في عداد الأموات ، لا بداية لي ولا نهاية ، أظن الاعدام بالنسبة لي أرحم ، فقط وضح لي موقفي وتفاصيل قضيتي ، أريدها قراءة جديدة لتقرير الشرطة ، بل كل الملف
    المحامي: لك ما تريدين ، سأعرض عليك تفاصيل القضية بالتدقيق ، وأناقشها معك ، فقط أعينيني بالاستعداد والرغبة في المشاركة
    السوداء: أعدك ، حتى لو كنت مجرمة ، لا أريد أن أبقى خلف الذاكرة ، لن أرحم نفسي وأترك لها فرصة للهروب من واقع شرها ، سأجعلها تدفع الثمن ، سأساعدك على الادانة ، انهم يبحثون عن اعتراف ، سأوفيهم ما يريدون وأضع نهاية لهذا المسلسل
    المحامي: الأمر ليس بالسهولة التي تتصورين ، ماذا تقولين لهم ؟ .. الاعتراف يحتاج كذلك الى أدلة ، والا سيتهمونك بتضليل القضاء ، وهذه جريمة أكبر .. سأساعدك بالتأجيل الى حين ينهي الطبيب النفساني مهمته .. بعدها سنرى .. أتركك الآن ..
    خرج المحامي وعادت هي الى مكانها، عادت الى الصور ، عادت الى المكان الذي افترقتها فيه الذاكرة ، افترق فيه الماضي مع الحاضر ، تلك الصور التي غلب عليها اللون الأخضر ، تروي تفاصيل أجساد في وضعيات مختلفة ، أجساد تمردت عنها الروح واستسلمت للصمت ، تتحدى كيفيات السؤال ، هي وحدها من بينهم التي تتكلم ولا تستطيع أن تقول شيئا ، مجرد أجساد من لحم ، لا فرق بينها وبينهم ، تلك المرأة المستلقية ، كأنها ورقة من شجرة الأيام قذفتها رياح اعصار الى عالم الاغتراب ، هذه السيارات الفارهة التي تحولت الى ركام من حديد ، كانت تحمل أناس تدفعهم عزائم مختلفة ، توقف حرصهم هنا ، وتعانقوا واختلطت دماء الأحبة والصحبة بدماء الأعداء على أرضية الزفت السوداء ، اختلط دم الجريمة بدم القانون ، منهم من وكأنه نائم ومنهم من تشوه ، يمارسون كلهم لعبة الصمت ... تسترجع صورهم الواحد تلوى الآخر ، لا تعرف منهم أحدا ، من هو المطارد ومن هو المطارد ، ومن هو القادم على حين غفلة ، حتى ذلك المريض الذي كانت تحمله سيارة الاسعاف قضى نحبه هنا ، لعله كان أقرب ... تبحث في كل واحد منهم لعلها تجد جزءا من ذاكرتها ، فوجدتهم أغرب مما كانت تتصور ، وجوه كلها من ألم ، من أسى ، من ندم ، صنعت نهايتهم المقادير التي لا تميز ولا ترحم ، تبحث أين كانت تجلس ، وبجانب من ، وماهي آخر كلمة قالتها وآخر كلمة سمعتها ، وماذا كانت تنوي أن تفعل ، وحدها تلك المرأة التي ترتدي ذلك المعطف الأخضر التي قالوا لها أنها هي ، لا تزال نائمة في عمقها ، ولا حتى تستطيع أن تسترها ، ليتها تستيقظ وتقول لها من هي ، هذا الجسد الذي لا يعرف نفسه ولا يعرفها ، هذا الجسد الذي ولدت من غيبوبته ، وكأنه رفضها وتبرأ منها وجردها من كل معانيه ، آماله ، أحلامه ، آلامه ، ، ما أراد لها أن تقاسمه مشاعره وماضيه ، احتفظ بكل شيء وسلمها للمجهول يحملها ما يشاء .. هذه المرأة التي شاء لها القدر أن تولد من جديد في السجن ، ربما لتموت ، فاعل حركته الظروف لصنع حدث ما ، سقطت رقما في معادلة عقد كل الحلول ... فأين تجد نفسها في هذه التراكمات التي تحيط بها بمصير في يد غيرها .. تضحك ، أنا عنصر خطير في عصابة ؟ لا أظن ، ان العناصر الخطيرة والفاعلة لا تفقد سر قوتها ، لأنه سبب وجودها ، أظن أن الذاكرة يفقدها فقط الذين يريدون التملص من مسؤولياتهم والتخلص من ماضيهم تحت وطأة الاستعداد النفسي لذلك .. ، أنا تلك التي ترتدي المعطف الأخضر؟ هل يمكن أن أكون كما يقولون ؟ لا أشعر بذلك ..
    قضت تلك الليلة في غمار البحث عن الذات في كل شيء ، عندما اقترب الفجر ، جاءتها تلك الغفوة ، لم تتجاوز بعض الدقائق واستيقظت ، لأول مرة تحلم وتتذكر حلمها ، بين الفرح والقنوط ، رأت شبحا يطاردها ، شبح امرأة تريد أن تضاجعها ، امرأة ترتدي معطفها الأخضر ، ولكن كلما قاربت أن تمسكها حال بينهما دخان كثيف ، أو ضباب .. امرأة سمتها هي المرأة الخضراء ، حتى وجهها كان أخضر ، أطرافها ، لباسها ، عيونها ، حتى سفطها كان أخضرا ...
    في صباح ذلك اليوم جاءت تلك المرأة الملاك ، صديقتها ، وكأنها غابت دهرا
    السوداء: كأنك في سنة
    المرأة: هل فكرتي في ؟
    السوداء: كيف لا أفكر فيك ، انتظرتك على أحر من الجمر ، حتى ظننت أني رأيتك في حلم
    المرأة: هل تختلط عليك الأشياء دائما الى درجة أنك لا تفرقين بين الواقع وما ترينه في المنام ؟
    السوداء: المنام ؟ ، أنا لأول مرة أرى حلما وأتذكره
    المرأة: جميل ، بدأت تحلمين ، انك على بوابة الخروج من الأزمة
    السوداء: الشيء الوحيد الذي لا أريد أن أتذكره هو السجن
    المرأة: لماذا ؟
    السوداء: لأنني أشعر بسجن آخر في عمق ذاتي ، كاد حديثك في المرة السابقة أن يفتحه
    المرأة: من صنع هذا السجن بداخلك ؟ حاولي أن تدخليه
    السوداء: أبوابه موصدة والطريق اليه مظلم ، مليء بالبشاعات
    المرأة: أرافقك ؟
    السوداء: ليتك تقدرين ، ليتك تفعلين
    المرأة: هيا حاولي ، سنبدأ من الأول
    السوداء: البارحة رأيت امرأة خضراء تحاول أن تضاجعني وأنا هاربة في متاهات يحول بيني وبينها سواد كلما اقتربت مني ، عينيها مثل عينيك ، لأول مرة أتذكر حلما ، كان كابوسا ، الا أنني أحسست بعد يقظتي بالفرحة الكاسحة وكأنني أعدت جزءا مني الى أصله
    المرأة: انها حقيقتك ، حاولي أن تستعيدي تلك اللحظات ولا تهربي منها في هذه المرة ، انظري اني معك ، وينزل عليك هسهاس النعاس يباشرك ، يحتويك ، يحضنك ، فوق أرجوحته وتبدأ هدهدة النوم ، وتسافر نظراتك في عمق الزمن الأخضر ، ذلك الزمن الجميل الذي يختفي وراء الهدوء الذي يخيفك ، يحمل معه ذلك الهدوء ، بشائر اللقاء بالمرأة الخضراء ، أنت الآن يا جميلتي تنامين .. تنامين ..تنامين في عمق الرحيل ، تسافرين خلف هذه الجفون المثقلة في عالم البحث عن الحقيقة التي هي هنا ، وراء ذلك الستار من دخان الوهم وأكذوبة الضباب حيث كنت طفلة .. نعم طفلة بريئة تملأ الفضاء بقهقهتها ، وترسم البسمة في كل مكان ، انظري هذه أمك ، نعم أمك ، أنت الآن على صدرها ، أنفك في نحرها تستنشقين عبق مناتحها وتنامين .. تنامين ..وتنزل كذلك الشيء الذي يضاهي في نزوله الرسوب الى عمق الذاكرة حيث تنام الذكريات خلف البشاعات الوهنة ، انه السفر للبحث عن الذات ، اخترقي الوهم ، انه هوان واسمعي نداء الماضي يستغيث بك ، انك الآن أنت .. أنت .. حينها كانت السوداء تستند على صدر المرأة ، ودمعتان تمهد طريق العبرات على الخد الأسود ، تسقي احمرار الشفاه التي كانت تتحرك ببطء ، كأنها تقرأ خواطر العتاب ، تستعيد في صعودها انفجار النفس الطويل .
    المرأة بكل قوة .. من أنت وضربت الطاولة
    السوداء: أنا .. أنا .. أنا خضراء نعم خضراء ...
    فزعت بعيون تكاد تنفجر ، تمسك رأسها بيديها وتصرخ أنا خضراء .. خضراء ، تضمها المرأة بكل رفق وقالت: هوني عليك بنيتي ، ستعرفين نفسك عن قريب ، رفعت رأسها ، تنظر الى المرأة والدهشة تملأ عينيها وقالت: من أنت ؟
    المرأة: أنا صديقتك
    السوداء: وأنا خضراء ، تلك المرأة التي رأيتها في المنام .. نعم أنا المرأة الخضراء
    فقامت المرأة ، قبلتها على الجبين وانصرفت ، أرادت أن تمسك بها أن تقول لها لا تذهبي ، أو تذهب معها ، تتسارع الأحداث في ذهنها وتتصارع ، يعود الشريط بقوة رهيبة ، انها تتشكل من جديد ، هجمت عليها الأجوبة من كل جهة فشدت على رأسها بكل قوة .. ألم ، ضجيج .. شيء ما يخنقها ..وفجأة انطلقت صرختها كأنها صيحة دمار ، سمعها الجميع ، فدخلت الحارسة تجري تتبعها المرأة التي كانت لا تزال تتحدث معها في الرواق .
    الحارسة: هيا كفى كوميديا
    أخذت تنظر اليها ثم قالت: الى أين ؟
    الحارسة: الى الفندق عشر نجوم
    فدخل المدير: ماذا يجري هنا ؟
    الحارسة: لا شيئ ، مجرد تمثيل .
    ساقتها أمامها وانصرفت
    المرأة: اختلط عليها الأمر ، انها تعاني ، لقد اختلط عليها الواقع بالخيال ، لما استعصى عليها الأمر لجأت الى الخيال لصناعة نفسها من جديد ... ربما في اللقاء القادم ستكون النتيجة أحسن ، يظهر أننا قطعنا شوطا مهما لاسترجاع ذاكرتها
    المدير: أشكرك حكيمة ، حتى الآن هي لا تعرفك ؟
    المرأة: لم أقل لها أنني طبيبة نفسانية حتى لا تحتاط ، لا أريدها أن تشعر انني أستنطقها لمعرفة حقيقتها كمجرمة حتى لا تنفر مني ، اني أعتمد على الجانب الانساني العاطفي ووازع الخير ، ربما رفضها لكونها مجرمة هو الذي سبب لها فقدان الذاكرة ، لأنها غير راضية عن نفسها ، انه الهروب من الذات ، ولهذا اني أعتمد على المحادثة الوجدانية للبراءة فيها ، في اللقاء القادم أحاول أن أصدمها بالواقع ..
    في مكتب المدير كان المحامي في انتظاره ، جلس الجميع
    الطبيبة النفسانية: سأحاول في المرة القادمة تحويل انتباهها الى الواقع أظن أنها تلقت ضربة وكانت تحت تأثير الاستعداد للهروب من ذاتها ، تحت مفعول الندم والخوف وخاصة لما كانت الشرطة تطاردهم ، أو ربما رفضها الاستسلام للأمر الواقع لما يلقى عليها القبض ... يجب اطلاق سراحها واعادتها الى مكان الحادث ، يجب أن ينشأ ذلك الشعور بالحرية والنجاة من العقاب حتى يتحرر الدافع الى ممارسة الفعل ، والعودة الى التمرد من جديد .. هكذا هي النفس البشرية أحيانا ، ساذجة ، تتجرد من كل شيء عند الخطر ، وبمجرد زواله تبرز الرغبة للعودة من جديد .. تلك هي الأمراض الاجتماعية تنام فيروزاتها ولا تموت ، لا يقهرها الا الالتزام المتواصل الذي تصنعه القناعات ، سواء كانت دينية ، أو ثقافة مبدأ انساني
    المحامي: صعب اقناع القاضي باطلاق سراحها ، هي الآن في نظر القانون مجرمة حتى يثبت العكس ، سلوكها في السجن يثبت ذلك ويؤكده
    المدير: انها عنيفة جدا ومتسلطة
    المحامي: فقدان الذاكرة لا أظن أنه يؤثر في السلوك
    الطبيبة النفسانية: فاقد الذاكرة في غيبوبة معنوية من المفروض أن لا يتصرف من الماضي ، بل يحاول أن يكتسب سلوكا حميدا ويبني شخصية متجانسة مع المحيط الذي يعيش فيه ، أو يتقوقع على الفراغ الذي يسكنه ، كل حسب استعداداته ، في الحقيقة وجودها في الوسط الاجرامي يشجعها على السير في الخط الموازي لماضيها ، ولا تلتقي معه الا في حالات نادرة ، ستستقر ولا تبحث عن نفسها اذا اقتنعت أنها كذلك
    المدير: هذا أمر يخص النيابة ، لأن العزل في حد ذاته عقوبة وأظن أنه لن ينفع ، فقد تجاوزت السنة
    الطبيبة النفسانية: لا نستطيع أن نوفر لها الأدنى ؟
    المدير: ياحكيمة، هذا سجن وليس مركز صحي أو مستوصف
    المحامي: من المفروض أن تكون هناك تسهيلات في الظروف الاستثنائية ، لأن هذا يساعدهم على كشف المجرمين ، والتقرير الطبي أثبت أن
    أفراد العصابة تناولوا أقراص مسمومة قبل الحادث بدقائق ، هي الوحيدة التي لم تتناولها ، وهذا دليل على أنهم لم يكونوا رؤوسا ، ووراءهم شخصية بارزة ، يبقى كيف أقنعوهم بتناولها ، في حالة الخطر ، هذا أمر آخر ، لا يمكن أن يكونوا سذجا الى هذه الدرجة ، وحتى الحقيبة اختفت ، القضية خطيرة جدا ، وخلفياتها لا تزال تثير أسئلة كثيرة ، كانوا ثلاثة رجال وامرأة سوداء ، هكذا جاء في التقرير
    المدير: ألا يمكن أن يكون قد نجى أحدهم وأخذ الحقيبة ، أو حضر أحد من العصابة الى الحادث وأخذها مثلا ؟
    المحامي: فرقة المطاردة أكدت عدة مرات عددهم ، وكانت تتابع تحركاتهم من المزرعة حتى دخولهم مدينة أروان ، كان من الممكن القبض عليهم ، ولكن الهدف كان الوصول الى رأس الحربة ، الا أن العصابة تفطنت لذلك ، فاشتدت المطاردة وحدث ما حدث
    الطبيبة النفسانية: امرأة سوداء ؟ امرأة خضراء ؟ تبتسم ، تهز رأسها ، برقت عينيها في الخفاء .. هناك شيء بداخلي يوحي الي أنها ليست مجرمة ، عندما أنظر اليها ، الى ملامح وجهها ، يديها ، حركاتها ، فيزيولوجيا ، لا يظهر عليها شيء من هذا
    المحامي: لا يمكن أن تضيع هذه المواصفات مع فقدان الذاكرة ؟
    الطبيبة النفسانية: مع طول الزمن ممكن ، ولكن مباشرة ، لا ، غير ممكن ، سأعود اليها مرة أخرى ، أستأذن
    المحامي: أنا كذلك ، عندي التزام الآن ..
    خرجوا جميعا وبقي المدير وحده يجتر حديثهما ، القضية أثارت فضوله كثيرا ، وليس من عادته ، حاول أن يصرف نظره الى شيء آخر الا أنه وجد نفسه محاصرة ..
    أنا سجان ، ماذا يهمني من أمر السجناء الا خنقهم والتضييق عليهم وجعلهم يشعرون بالعقاب ، لماذا أريد حشر نفسي في أمر لا دخل لي فيه من قريب ولا من بعيد ، السجان جلاد ، لا مكان للرحمة في قلبه ، هكذا علمونا ، والسجان الناجح هو الذي يتمنى أن تكون الأرض كلها سجن ، وهذا حلم كان يراودني ، وهكذا فهمونا ، الملجأ الذي نشأت فيه كان كذلك عبارة عن سجن ، والمدرسة العسكرية سجن ، وتحويلي الى ادارة السجون كان طموحا من طموحاتي ، وها أنا ذا على رأس المؤسسة العقابية التي سموها تمويها اعادة التربية ، هنا يتطلب منا الخشونة وذل الرقاب ... صنعت من أجل هذا ، فماهذا الاحساس الغريب الذي يدفعه شعور بالذنب لأول مرة اتجاه هذه المرأة السوداء ، ما أظنه الا أنه نابع من سواد البشرة الذي نتقاسمه ... سأحاربه وأقضي عليه .. ضغط على الزر ، فظهرت الحارسة ، سارها وخرجت ، ذهبت مباشرة الى القاعة وبدأت تستفز السوداء ، كلمة جارحة ، صفعة ، ركلة ، بزاق ، .. دفعتها ، ولم تشعر السوداء الا وجامع كفها على خد الحارسة بكل ما تملك من قوة ، فوقعت على الأرض كالذبابة ، هرول اليها الجميع ، قامت ، وضعت لها القيود وأخذتها الى مكتب المدير ، تدفعها كما تدفع الشاة الى المذبح .. فأمر بعزلها في زنزانة ..
    مر أسبوع على هذه الحالة ولا تزال على حالها ، صدق من سماك الصخرة السوداء ، أعادوها الى القاعة ، كانت انسانا آخر ، وكأنها تدخل السجن لأول مرة ، تبكي ليلا ونهارا ، يتساءل الكثير عما بأغوار هذه الصخرة ، هذا الجسد الممشوق رغم المحن والعيون النجلاء والشفاه الغليظة ... جمال في ضبابية ، أخذ بمجامع فؤاده ، لأول مرة يحس بالحرمان ، يحس بنقص عاطفي فظيع ، يبحث عن الحنان ، عن الدفء ، هذا الشعور الغريب ألقى به في غربة الذات وأدخله الى حقيقة السجن ، يحاول تبديد الظلام الذي يحيط به من كل جهة في هذا العالم الذي دخله ولأول مرة ، بعيدا عن القساوة وخشونة الحذاء ، هذه المعاني الجديدة التي دخلت بها هذه المرأة الى فؤاده غازية ، فحطمت كل القيود ، وحررت لأول مرة الروح الانسانية من أنكال التشويه وبشاعة البذلة ، ولكن ماذا عساه أن يفعل ، انه موظف ، عبد مأمور صادق العبودية ، ليس له الحق في مخالفة القول أو العمل ، الأوامر تأتي من الأعلى وهو دائما في الأسفل .. أغلق مكتبه ونزل الى الزنزانات والقاعات ، لا تسمع الا الهمس .. المدير ... المدير .. وقعقعة الأبواب وانصفاقها ، وقرعات حذائه على البلاط ، كانت خطواته في هذه المرة مثقلة يرد صداها الرواق ، تبعث في نفوس السجناء القلق والخوف وشعور باقتراب بشاعة النهايات ، يتفقد القاعة بعد الأخرى ، يتذكر بعض الوجوه التي مرت من هنا الى المقصلة ، أو حولت أو أطلق سراحها بعد الاستنزاف التام ... حتى وصل الى جناح النساء ، بعض الأسئلة الروتينية للحارسات ، والسجينات ، لم يكن كعادته ، كان حينها يجتر غربة السجن ، كاد يقول لهن ، لجميع السجناء في العالم ، لا تندهشوا العالم كله سجن ، وسكانه في غيبوبة ، كاد يقول لهم ان سجني أعظم وسواد ظاهري ما هو الا انعكاس لما أعانيه من غربة الذات في هذه الدهاليز التي تنبعث منها تصرفاتنا الظالمة التي لا نجد لها تفسيرا .. أما أنت أيتها الصخرة السوداء التي لا نعرف حتى الآن ما وراء هذا الجدار الأسود الذي بيننا وبينك ، حتى لو خرجت ، ستجدين نفسك في سجن أضيق وأسوأ ، ثم تحول الى الحارسة:
    لا زالت على حالها ؟
    الحارسة: بدأت تشعر بالذنب ، منذ عادت من الزنزانة وهي تبكي ، ولا يزال الجميع يتعامل معها بحذر ، بالمناسبة ، ماذا نفعل بالسجينة التي ضربتها
    المدير: لا شيء ، حولوها الى قاعة أخرى ، انتهت مهمتها ، ستخرج في هذا الأسبوع ... غريب أمر هذه المرأة ..
    توقف كثيرا في هذه القاعة ، وكأنه ينتظرها تقوم اليه ، ولما تأكد بأنها تعيش في عالم كله بؤس ، غربة الذات والديار ، انصرف بكبرياء منهزم ، وشعرت الحارسة بشيء في نفسه فقالت: ماذا أنت فاعل بها ؟
    نظر اليها بشيء من الغرابة وانصرف ، دخل الى مكتبه ، الجو فيه لطيف ومكيف ، نزع معطفه ، علقه ، شمر على ساعديه وجلس ، كان الكرسي مريحا على مقاس جسده ، أخذ سيجارة ، يمتص دخان احتراقها الأبيض ، يبتلعه حتى لا يكاد يخرج ، ويرسله مع الزفير أبيض حتى لا تكاد تراه العين ، والعقل كأنه حاسوب يبحث عن شيء خارج برمجته ، وحار الضمير وخانه التعبير ، يتسائل كيف تحولت آلة قانون مثله الى نفحات تجاوزت كل الأعراف والشرائع وتحدت البناءات الذاتية والتركيبة النفسية لاحتواء انسانة مثل الصخرة السوداء .. هذا الرقم المجهول في عصابة دوخت عباقرة صيادي الجريمة ، وراءها دماء تصفيات وتبيض أموال ، قتل مئات بل آلاف العزائم وتهميش فئات كثيرة من المجتمع وتحويلها الى طاقات وقدرات لاستنزاف الذات البشرية ... هي دائما النافذة الوحيدة ، والزاوية الوحيدة التي ينظر منها مثله ويغض بصره عن المضخات التي تدفع هذه العمالة في سوق الاجرام ، تنظيم كهذا لا يأتي من العدم ، خلق الحدث التشهيري ومحاربته ، كالاختراق تماما ، تعمل به كل الجهات المختصة لتوجيه التيار الدعائي المغرض ، وكم نحن بارعون في صناعة مثل هذه الرياح ، نحرق الدار ونبكي مع صاحبها ... رغم كل هذا يمكن أن لا يحاكموها أصلا ، حتى يدركها النسيان ثم تختفي ولن يسأل عنها أحد مثل ما فعلوا بالكثير من مروا من هنا .. و الزمن أثقل من التراب ... حينها لا ينفعها طبيب ولا محام ، ولا حتى الذاكرة ، نعم الذاكرة ! ... يا ويحها ... يا ويحها .. يجب أن أحذرها ، يجب .. يا ويحها من عودة الذاكرة ... يجب أن أنبهها ، ولكن كيف ؟ أتمنى أن تكون ذكية ولا تقع في قدر التصفية ... البرزخ الذي بين القاعدة والقمة مثلها هو الذي يدفع الثمن في أغلب الأحيان وخاصة عندما يكون الرأس في السماء ، تقطع كل سبل الوصل ، وما أنتن فساد الرأس وما أبشعه مقابل نتانة البطن وما أهونه ، وبمواصفاتها وصفاتها ، ما تكون الا أرنبا في سباق جميع الأطراف ، تنتهي اللعبة ويحسم الأمر في وثبتها الأخيرة قبل الوصول ، ويعود الجميع الى مواقعهم ، كل في رواقه ، حتى يظهر أرنب آخر أسذج .. يبتسم بعضهم لبعض ، ويشير القدح الى القدح من بعيد في انتظار جولة أخرى ... وتستمر الحفلة كما يقول المثل الفرنسي ...









    الفصل السادس

  • عرض 40 مشاركات من هذا الموضوع لكل صفحة
    صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة