التأمل .. مفهومه وضروراته
التأمل .. مفهومه وضروراته
إبراهيم كشت
بدا لي من خلال ما سمعت أو قرأت عن التأمل، أو نتيجة ما توصلت إليه من خلال البحث عن مفاهيمه في بعض المعاجم، أن ثمة نوعين من التأمل، يختلفان من حيث الغاية، ويلتقيان من حيث كونهما شكلا من أشكال النشاط الذهني الذي يقوم على توجيه التفكير نحو موضوع أو شيء، والاستغراق فيه بتركيز مكثف، يبعد المؤثرات الداخلية والخارجية التي تسبب الشرود والتشتت . وهذان النوعان من التأمل هما : التأمل الفلسفي أو الإبداعي، والتأمل الروحي. فالتأمل الفلسفي أو الإبداعي ينحو إلى الاستغراق في التفكير بموضوع أو قضية أو مشكلة أو مسألة، لفهم طبيعتها، وتحليل عناصرها وعلاقاتها وآثارها، أو يتجه للتفكر في الأحداث والوقائع للخروج بالعبر والدروس، أو يرمي الى قيام الشخص بإعادة النظر في مساره لتحديد اتجاه البوصلة والسير في الطريق الصحيحة .
أما التأمل الذي يأخذ المنحى الروحي فإن فيه اتصالا مكثفا بين المرء وذاته من خلال ذلك الاستغراق في التفكير بأمر ما، غالبا ما يكون ذا بعد روحي أو ديني أو وجداني، ويرتبط هذا النوع من التأمل بصفاء الذهن والنفس، فكأنما هو نمط من التصوف وتنقية القلب من شوائب الشر والضعف، وتخليص العقل من الأفكار السلبية، والسمو بالروح، وتحقيق الطمأنينة والراحة النفسية الداخلية الحقيقية .
وتجد الأنواع المختلفة من التأمل الروحي جذورها في مختلف الأديان، ولا سيما في الديانات التي تسود في الهند وما حولها، ولذلك يلاحظ أن هذا النمط من التأمل محاط عادة بطقوس معينة مثل طريقة الجلوس ونوع اللباس والوقت والمكان وما إلى ذلك. ويبدو أن هذا التأمل يحقق لمن يمارسونه درجة من الراحة النفسية التي ينشدونها، ويساعدهم على مواجهة تحديات الحياة، وطرد الأفكار السلبية، وتدعيم التفكير الايجابي، والوصول إلى حالة من الصفاء الذهني والنفسي بما يرافق ذلك من إحساس بالجمال والسكينة والارتقاء . وربما لهذا السبب عادت أنواع من التأمل الروحي للانتشار في الوقت الحاضر ضمن الاتجاهات التي تسمى (فن الحياة) أو ما إليها، وأصحاب هذه الاتجاهات يؤكدون دائما على ما لهذا التأمل من فوائد عقلية ونفسية وصحية تثبتها الأبحاث الواقعية والعلمية .
لكن، وجريا على عادة بني آدم عبر التاريخ، يلجأ كثير ممن يدعون إلى التأمل الروحي إلى تعليل نتائجه الايجابية بأسباب ماورائية، ويحاولون ربطها بتفسيرات غيبية، أو يحاولون التوفيق بين العلم والخرافة بادعاء ارتباط هذه الممارسات بأشكال من الطاقة السلبية والايجابية التي تربط أجزاء الكون، وما إلى ذلك من الافتراضات، يدعون كل ذلك بينما لا تعدو مسألة التأمل الروحي وتأثيراته الايجابية أن تكون نوعا من الإيحاء الذاتي الايجابي، ونتيجة لما في هذا التأمل من تركيز واتصال مكثف مع الذات، وبالنظر لما يحاط به من طقوس، ولأنه يمارس ضمن جو من الهدوء والاسترخاء، فإنه قادر على مخاطبة اللاشعور والتأثير الايجابي فيه من خلال التكرار والإيحاء وإبعاد المؤثرات الخارجية، وبالتالي فإنه يحقق نتائج جسدية ونفسية وعقلية ايجابية، دون أن (نشطح) بتفسير ذلك بما لا يحتمله أو بما يقبله العلم والمنطق .
وعودة إلى التأمل الفلسفي أو الإبداعي، فقد كان له تأثيره الواسع عبر التاريخ في نشوء الفلسفات والأفكار والمناهج المختلفة، لكنه لم يعد في عصرنا الحالي كذلك، حيث لا يجوز الاستناد إلى التأمل في الوصول إلى الحقائق العلمية سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية، لأن حقائق العلم تحتاج إلى التجارب التي تثبتها، والى البحوث الميدانية القائمة على الوقائع والأرقام . غير أن هذا القول، لا يقلل من أهمية التأمل الفلسفي والإبداعي في شيء، فهذا التأمل هو الذي ساق الفلاسفة والمفكرين إلى وضع أسس المنطق والتفكير السليم والمنهج العلمي في حل المشاكل، وهذه الأسس والمناهج هي التي قادت إلى الاكتشافات والاختراعات العلمية، والى التقدم في نتائج الأبحاث والدراسات الإنسانية . كما أن التأمل هو الذي يؤدي إلى فهم المشاكل ووضع الفرضيات وتصور الحلول واستخدام الخيال، على نحو يسهم بفاعلية في التطور العلمي والتكنولوجي وفي الإبداع في شتى العلوم .
صحيح أن الإبداع يظهر أحيانا على شكل ومضة، حتى يبدو وكأنه وليد اللحظة، لكنه في غالبه يكون نتيجة تأمل فيه استغراق طويل، احتضن اللاوعي بعده الفكرة والأسئلة التي تدور حولها، ثم أخرج للوعي الحاضر ذلك الإبداع بشكل فكرة لمعت في الذهن في برهة، فظهرت كأنها بنت أوانها . يضاف إلى ذلك أن للتأمل الفلسفي أهمية بالنسبة للمبدعين على صعيد الأدب والفكر والثقافة لأنه يساعدهم على فهم الواقع والربط بين العناصر والوصول للمقدمات والبحث عن النتائج، والتعبير عن ذلك كله بأسلوب مبدع وفكر مقنع .
في عصرنا الحالي، قلت علاقة الإنسان بذاته وتراجعت علاقته بالمعاني الجليلة والأفكار السامية، بسبب الوقت الذي يستغرقه العمل، والأوقات التي تحتلها متابعة التلفاز والانترنت، ناهيك عن الضجيج، وسرعة الأحداث والوقائع، وتوالي التغيرات، وتعدد المنبهات والمثيرات، وكل ذلك يقلل من الوقت المتاح للإنسان لمجالسة نفسه والتفكر في صحة مساره وحياته واستخلاص العبر من ماضيه واستشراف مستقبله والبحث عن الحكمة والسكينة وراحة البال، وفي ضوء ذلك يغدو التأمل بكل أنواعه ومفاهيمه أكثر ضرورة وأهمية، وأكثر فاعلية في تحقيق الطمأنينة النفسية والصفاء الذهني والإبداع الفكري .
