من القصص القرآني الذي يتلمس قارئها العبرة فيها والحكمة قصّة كليم الله موسى وسيدنا الخضر عليهما السلام.
موسى (ع) نبيّ بني اسرائيل ملأ الدنيا صدقا ووعيا وعلما لكونه نبيّا مرسلا، ولكن هذا لا يمنع أن يتحول هذا النبيّ المعلّم الى تلميذ يأخذ درسا في الحياة من غير نبيّ، في دائرة غير دائرة النبوة، اذ انّ كتاب الحياة كبير، وصفحاته مشرعة للجميع، وكلّ واحد من الناس يتيسّر له التخصّص في مادّة من موادّه دون بقية المواد الاخرى.
انّ علم موسى(ع) علم لدنّي أي من لدنّ الله سبحانه في دائرة الرسالة فقط ، وما عند الخضر(ع) علم لدنّي أيضا ولكن في اطار هذه الرحلة( آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما).
ومن أجل أن يستمرّ موسى على طريق حكمة الحياة واكتساب المعارف فاءنّ عليه أن يبذل جهدا ويهاجر من أجل طلب العلم اللّدنّي الذي عند الخضر( اذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتّى أبلغ مجمع البحرينأو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا).
يقال انّ فتاه هو(يوشع بن نون)من بني اسرائيل وكان رشيدا شجاعا.
وقيل( انّ مجمع البحرين) هو محلّ اتصال خليج العقبة مع خليج السويس ويتصلان معا بالبحر الأحمر.
طلب موسى من فتاه أن يحمل الحوت في مكتل، وقال له: عندما تفقد الحوت عليك أن تخبرني وابتدأت رحلة الغيب،فلما وصلا الى صخرة على البحر ناما ، فانفلت الحوت من المكتل واتخذ سبيله في البحر سربا.
وشكّل انفلات الحوت آية لموسى، فتأكّد موسى أنّه قد تجاوز المكان الذي وعده ربّه أن يلتقي فيه بالعبد الصالح، فعاد اليه ووجد الخضر عنده.
وتبدأ القصّة بين المعلّم والتلميذ ويتهيأ موسى ليدخل آفاقا غيبية خفية عليه.
وبكل أدب وشوق يقول موسى للخضر( هل أتبعك على أن تعلّمني مما علّمت رشدا) وتوحي كلمات التعلّم والتعليم المشدّتان على أنّ العملية التعليمية ليست بتلك السهولة، لأنّ العلم الذي حصل عليه المعلّم والتلميذ لو يأت باءسترخاء، فكلاهما يقدّر حجم معانات الآخر في تلّقيه العلم .
ولكنّ موسى كان متلهفّا لما في دائرة العبد الصالح من علم فيريده كلّه اذ قال له (مما علّمت) لا بما تعلّمته أنت من خلال جهدك الشخصي، وأدرك الاستاذ أنّ المسألة تحتاج مرافقة وصبرا، فقال لموسى( انّك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا).
فامتثل موسى لمعلّمه بصبر وأناة وهوادة( قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولن أعصي لك أمرا).
وأنّ موسى أدرك أنّ الرحلة شاقّة والمشهد مثير ويحتاج الى أناة وتحمّل (فانطلقا حتّى اذا ركبا في السفينة خرقها) فأثار هذا العمل موسى وحرّك انفعالاته لأنه رآه عملا عابثا و ليس عقلانيا( قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا).
ويذكّره الخضر بما قال له (ألم أقل انّك لن تستطيع معي صبرا) أي أنّك ياموسى نظرت الى الفعل كفعل ولم تنظر الى ما وراءه .
وأنّ ما تفيده كلمة(معي) بمعنى الشخص الذي يتحرك باءرادة ربّانية لا بمعنى الشخصانية التي تتحرّك بمفردات بشرية.
والتفت موسى الى هذا المعنى( قال لاتؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) .
وتقبل الاستاذ نسيان تلميذه ولذلك كان يعبر له دائما( انّك لن تستطيع) بما توحي بوجود فرصة لمواصلة المشوار معك( حتّى اذا لقيا غلاما فقتله) وأصبح موسى أمام دم مسفوح من نفس بريئة لم ترتكب جناية فتحرّك في وجدانه الدفاع عن الطفولة المذبوحة مهما يكن قصد القاتل ونواياه ( قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) ويردّه المعلّم ردّ الواثق المطمئن(ألم أقل لك انّك لن تستطيع معي صبرا).
ويرجع موسى الى هدف الرحلة وأنّه مأمور أن يتلقّى الدروس فيها وأنّها رحلة غيب ( فال ان سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرا).
ويتقبل المعلّم تراجع تلميذه وهو يدرك أنّ موسى لم يحط بمثل هذه الغيبيات خبرا ، وأنّه موكول اليه تعليمه وتدريبه عليها ليتهيأ كنبي لبني اسرائيل وأمامه طريق طويل مزروع بالحجارة والأشواك ، وأنّه أمام امّة يحتاج للتعامل معها صبرا مضاعفا.
ويدخل موسى في امتحان آخر( حتّى اذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه) وينتفض موسى أمام هذا الفعل الذي لا يجد له مسوّغا فتحتشد في ذهنه أنّ أهل القرية لم يضيفوهما وهو عمل بحدّ ذاته مرفوض، واذا ما عملا عملا أن يأخذا عليه أجرا لتسديد امورهما لا زالا في قرية بخيلة مع أنّ موسى ابن بيئة لا تقدّم شيئا من دون ثمن، فقال للخضر( لو شئت لاتخذت عليه أجرا).
وبهذا المنطق أبطل موسى الصحبة ويسدل الستار على هذا المشهد الغيبي بعد أن يطلعنا الخضر على الأسرار وخلفيات الامور( هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تسطع عليه صبرا) وتوحي كلمة(تسطع) على الاختزال والسرعة والطيّ. ( أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهما ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا، وأمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربّك ).
وكلّ الذي حدث ياموسى لم يكن من وحي ثقافتي الدينية أوأنّه اجتهاد أزهق به روحا أو أخرق سفينة أو أقيم جدارا من دون تكليف من أحد ( وما فعلته من أمري) بل كلّ ما فعلته هو بأمر الله وعليك ياموسى أن لاتعجل ولا تتعجّل( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا).
الهم علما من لدنك علما
رد مع اقتباس
المفضلات