ذكر ما امتحن الله به إبراهيم ، عليه السلام
بعد ابتلاء الله تعالى إبراهيم بما كان من نمرود ، وذبح ولده بعد أن رجا نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنه ابتلاه بهن فقال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن . واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات . فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم . وقال الله : وإبراهيم الذي وفى ، قال : والكلمات عشر في " براءة " ، وهي : العابدون الحامدون الآية ، وعشر في " الأحزاب " ، وهي إن المسلمين والمسلمات الآية ، وعشر في " المؤمنين " من أولها إلى قوله تعالى : والذين هم على صلاتهم يحافظون . وقال آخرون : هي عشر خصال .
قال ابن عباس من رواية طاوس ، وغيره عنه : الكلمات عشر ، وهي خمس في الرأس : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق شعر الرأس ، وخمس في الجسد ، وهي : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر الغائط . وقال آخرون : هي مناسك الحج . وقوله تعالى : إني جاعلك للناس إماما وهو قول أبي صالح ، ومجاهد . وقال آخرون : هي ستة ، وهي : الكواكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان .
وذبح ابنه ، وهو قول الحسن ، قال : ابتلاه بذلك فعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض وهاجر من وطنه ، وأراد ذبح ابنه وختن نفسه . وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه في التاريخ المختصر ، وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب .
الكامل في التاريخ
عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير
ذكر السبب الذي من أجله أمر إبراهيم بالذبح وصفة الذبح
قيل : أمر الله إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه فيما ذكر أنه دعا الله أن يهب له ولدا ذكرا صالحا ، فقال : رب هب لي من الصالحين . فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال : إذن هو ذبيح . فلما ولد الغلام وبلغ معه السعي قيل له : أوف نذرك الذي نذرت . وهذا على قول من زعم أن الذبيح إسحاق ، وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا . وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول : إن ذلك كان بمكة .
قال محمد بن إسحاق : إن إبراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه : يا بني ، خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب لأهلك . فلما توجه اعترضه إبليس ليصده عن ذلك ، فقال : إليك عني يا عدو الله ! فوالله لأمضين لأمر الله ! فاعترض إسماعيل فأعلمه ما يريد إبراهيم يصنع به ، فقال : سمعا لأمر ربي وطاعة . فذهب إلى هاجر فأعلمها ، فقالت : إن كان ربه أمره بذلك فتسليما لأمر الله . فرجع بغيظه لم يصب منهم شيئا .
فلما خلا إبراهيم بالشعب ، وهو شعب ثبير ، قال له : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . ثم قال له يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري ، فإن الموت شديد ، واشحذ شفرتك حتى تريحني ، فإذا أضجعتني فكبني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنك تدرك رحمة فتحول بينك وبين أمر الله ، وإن رأيت أن ترد قميصي إلى هاجر أمي فعسى أن يكون أسلى لها عني ، فافعل . فقال إبراهيم : نعم المعين أنت ، أي بني ، على أمر الله !
فربطه كما أمره ، ثم حد شفرته وتله للجبين ، ثم أدخل الشفرة لحلقه ، فقلبها الله لقفاها ، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه ، فنودي : أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا ، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها .
وقيل : جعل الله على حلقه صحيفة نحاس . قال ابن عباس : خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا ، وقيل : هو الكبش الذي قربه هابيل ، وقال علي - عليه السلام - : كان كبشا أقرن أعين أبيض . وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه ، قيل بالمقام ، وقيل : بمنى في المنحر .
الكامل في التاريخ
عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير